السبت، 28 مايو 2011

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية( جزء 3)

ص -105- يا رسول الله "الا آل فلان" فإنهم كانوا أسعدونى في الجاهلية فلا بد لى من أن أسعدهم فقال الا آل فلان وفي رواية لهما أنها قالت بايعنا رسول الله فقرأ علينا {أن لا يشركن بالله شيئا} ونهانا عن النياحة فقبضت منا امرأة يدها فقالت فلانة أسعدتنى فأنا أريد أن أجزيها قالت فما قال لها شيئا فذهبت فانطلقت ثم رجعت فبايعها قالوا وهذا الاذن لبعضهن في فعله يدل على أن النهى عنه تنزيه لا تحريم ويتعين حمله على المجرد من تلك المفاسد جمعا بين الأدلة
قال المحرمون لا تعارض سنة رسول الله بأحد من الناس كائنا من كان ولا نضرب سننه بعضها ببعض وما ذكرنا من النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل تأويلا وقد انعقد عليها الإجماع وأما المرأة التى قال لها الا آل فلان والمرأة التى سكت عنها فذلك خاص بهما لوجهين
أحدهما أنه قال لغيرهما لما سألته ذلك لا إسعاد في الإسلام
والثانى أنه أطلق لهما ذلك وهما حديثا عهد بالاسلام وهما لم يميزا بين الجائز من ذلك وبين المحرم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فعلم أن الحكم لا يعدوهما إلى غيرهما وأما الكلمة اليسيرة اذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب نص عليه أحمد في مسنده من حديث أنس أن أبا بكر رضى الله عنه دخل على النبي بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يده على صدغيه وقال وانبياه واخليلاه واصفياه
وفي صحيح البخارى عن أنس أيضا قال: لما ثقل على النبي جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة واكرب أبتاه فقال ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه فلما دفن قالت فاطمة يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب وقال النبي: "وانا

ص -106- بك يا ابراهيم لمحزنون" وهذا ونحوه من القول الذى ليس فيه تظلم للمقدور ولا تسخط على الرب ولا اسخاط له فهو كمجرد البكاء
فصل: وأما قول النبي: "ان الميت ليعذب بالنياحة عليه" فقد ثبت عنه من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله والمغيرة بن شعبة وروى نحوه عن عمران بن حصين وأبى موسى رضى الله عنهم فاختلفت طرق الناس في ذلك فقالت فرقة يتصرف الله في خلقه بما يشاء وأفعال الله لا تعلل ولا فرق بين التعذيب بالنوح عليه والتعذيب بما هو منسوب اليه لأن الله خالق الجميع والله تعالى يؤلم الاطفال والبهائم والمجانين بغير عمل
وقالت فرقة هذه الاحاديث لا تصح عن رسول الله وقد أنكرتها عائشة أم المؤمنين واحتجت بقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}ولما بلغها رواية عمر وابنه قالت انكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا متهمين ولكن السمع يخطئ وقالت انما مر النبي على قبر يهودى فقال: "ان صاحب هذا القبر يعذب وأهله يبكون عليه"
وفي رواية متفق عليها عنها انما قال رسول الله: "ان الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه" وقالت حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى}
وقالت فرقة أخرى منهم المزنى وغيره ان ذلك محمول على من أوصى به اذا كانت عادتهم ذلك وهو كثير في أشعارهم كقول طرفة
اذا مت فانعينى بما أنا أهله وشقى على الجيب يا إبنة معبد
وقول لبيد
فقوما فقولا بالذى قد علمتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذى لا صديقه أضاع ولا خان الامين ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

ص -107- وقالت طائفة هو محمول على من سنته وسنة قومه ذلك اذا لم ينههم عنه لأن ترك نهيه دليل على رضاه به وهذا قول ابن المبارك وغيره قال أبو البركات ابن تيمية وهو أصح الاقوال كلها لأنه متى غلب على ظنه فعلهم ولم يوصهم بتركه فقد رضى به وصار كمن ترك النهى عن المنكر مع القدرة عليه فأما اذا أوصاهم بتركه فخالفوه فالله أكرم من أن يعذبه بذلك وقد حصل بذلك العمل بالآية مع اجراء الخير على عمومه في كثير من الموارد وانكار عائشة لذلك بعد رواية الثقات لا يعول عليه فإنهم قد يحضرون ما لا نحضره ويشهدون ما نغيب عنه واحتمال السهو والغلط بعيد خصوصا في حق خمسة من أكابر الصحابة
وقوله في اليهود لا يمنع أن يكون قد قال ما رواه عنه هؤلاء الخمسة في أوقات أخر ثم هى محجوجة بروايتها عنه أنه قال: "ان الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه" فإذا لم يمنع زيادة الكافر عذابا بفعل غيره مع كونه مخالفا لظاهر الآية لم يمنع ذلك في حق المسلم ان الله سبحانه كما لا يظلم عبده المسلم لا يظلم الكافر والله أعلم فصل ولا تحتاج هذه الاحاديث إلى شئ من هذه التكلفات وليس فيها بحمد الله اشكال ولا مخالفة لظاهر القرآن ولا لقاعدة من قواعد الشرع ولا تتضمن عقوبة الانسان بذنب غيره فإن النبي لم يقل ان الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ونوحهم وانما قال يعذب بذلك ولا ريب أن ذلك يؤلمه ويعذبه والعذاب هو الالم الذى يحصل له وهو أعم من العقاب والاعم لا يستلزم الاخص وقد قال النبي: "السفر قطعة من العذاب" وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر حتى ان الميت ليتألم بمن يعاقب في قبره في جواره ويتأذى بذلك كما يتأذى الانسان في الدنيا بما يشاهده من عقوبة جاره فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم وهو البكاء الذى كان أهل الجاهلية يفعلونه والبكاء على الميت عندهم اسم لذلك وهو معروف في نظمهم ونثرهم تألم الميت بذلك في قبره

ص -108- فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه وهذه طريقة شيخنا في هذه الاحاديث وبالله التوفيق

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب التاسع عشر في الصبر نصف الإيمان وأن الإيمان نصفان صبر ونصف شكر

الباب التاسع عشر: في أن الصبر نصف الايمان
والايمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر قال غير واحد من السلف الصبر نصف الايمان وقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: "الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" ولهذا جمع الله سبحانه بين الصبر والشكر في قوله {ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} في سورة ابراهيم وفي سورة حمعسق وفي سورة سبأ وفي سورة لقمان وقد ذكر لهذا التنصيف اعتبارات
أحدها أن الايمان اسم لمجموع القول والعمل والنية وهى ترجع إلى شطرين فعل وترك فالفعل هو العمل بطاعة الله وهو حقيقة الشكر والترك هو الصبر عن المعصية والدين كله في هذين الشيئين فعل المأمور وترك المحظور
الاعتبار الثانى أن الايمان مبنى على ركنين يقين وصبر وهما الركنان المذكوران في قوله تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فباليقين يعلم حقيقة الامر والنهى والثواب والعقاب وبالصبر ينفذ ما أمر به ويكف نفسه عما نهى عنه ولا يحصل له التصديق بالامر والنهى انه من عند الله وبالثواب والعقاب الا باليقين ولا يمكنه الدوام على فعل المأمور وكف النفس عن المحظور الا بالصبر فصار الصبر نصف الايمان والنصف الثانى الشكر بفعل ما أمر به وبترك ما نهى عنه

ص -109- الاعتبار الثالث أن الايمان قول وعمل والقول قول القلب واللسان والعمل عمل القلب والجوارح وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمنا كما قال عن قوم فرعون {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح {وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين} وقال موسى لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والارض بصائر} فهؤلاء حصل قول القلب وهو المعرفة والعلم ولم يكونوا بذلك مؤمنين وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمنا بل كان من المنافقين وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمنا حتى يأتى بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة فيحب الله ورسوله ويوالى أولياء الله ويعادى أعداءه ويستسلم بقلبه لله وحده وينقاد لمتابعة رسوله وطاعته والتزام شريعته ظاهرا وباطنا واذا فعل ذلك لم يكف في كمال ايمانه حتى يفعل ما امر به
فهذه الاركان الاربعة هى أركان الايمان التى قام عليها بناؤه وهى ترجع إلى علم وعمل ويدخل في العمل كف النفس الذى هو متعلق النهى وكلاهما لا يحصل الا بالصبر فصار الايمان نصفين أحدهما الصبر والثانى متولد عنه من العلم والعمل
الاعتبار الرابع أن النفس لها قوتان قوة الاقدام وقوة الاحجام وهى دائما تتردد بين أحكام هاتين القوتين فتقدم على ما تحبه وتحجم عما تكرهه والدين كله اقدام واحجام اقدام على طاعة واحجام عن معاصى الله وكل منهما لا يمكن حصوله الا بالصبر
الاعتبار الخامس أن الدين كله رغبة ورهبة فالمؤمن هو الراغب الراهب قال تعالى انهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وفي الدعاء عند النوم الذى رواه البخارى في

ص -110- صحيحه"اللهم انى أسلمت نفسى اليك ووجهت وجهى اليك وفوضت امرى اليك وألجأت ظهرى اليك رغبة ورهبة اليك" فلا تجد المؤمن أبدا الا راغبا وراهبا والرغبة والرهبة لا تقوم الا على ساق الصبر فرهبته تحمله على الصبر ورغبته تقوده إلى الشكر
الاعتبار السادس ان جميع ما يباشره العبد في هذه الدار لا يخرج عما ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضره في الدنيا والاخرة أو ينفعه في أحد الدارين ويضره في الاخرى وأشرف الاقسام أن يفعل ما ينفعه في الاخرة ويترك ما يضره فيها وهو حقيقة الايمان ففعل ما ينفعه هو الشكر وترك ما يضره هو الصبر
الاعتبار السابع ان العبد لا ينفك عن أمر يفعله ونهى يتركه وقدر يجرى عليه وفرضه في الثلاثة الصبر والشكر ففعل المأمور هو الشكر وترك المحظور والصبر على المقدور هو الصبر
الاعتبار الثامن إن العبد فيه داعيان داع يدعوه إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها وداع يدعوه إلى الله والدار الآخرة وما أعد فيها لأوليائه من النعيم المقيم فعصيان داعى الشهوة والهوى هو الصبر وإجابة داعى الله والدار الآخرة هو الشكر
الاعتبار التاسع ان الدين مداره على أصلين العزم والثبات وهما الأصلان المذكوران في الحديث الذى رواه أحمد والنسائى عن النبي: "اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد" وأصل الشكر صحة العزيمة وأصل الصبر قوة الثبات فمتى أيد العبد بعزيمة وثبات فقد أيد بالمعونة والتوفيق
الاعتبار العاشر ان الدين مبنى على أصلين الحق والصبر وهما المذكوران في قوله تعالى
{وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} ولما كان المطلوب من العبد هو العمل بالحق في نفسه وتنفيذه في الناس وكان هذا
ص -111- هو حقيقة الشكر لم يمكنه ذلك إلا بالصبر عليه فكان الصبر نصف الايمان والله سبحانه وتعالى أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب العشرون في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر

الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر
حكى أبو الفرج ابن الجوزى في ذلك ثلاثة أقوال أحدها ان الصبر أفضل والثانى ان الشكر أفضل والثالث أنهما سواء كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت
ونحن نذكر ما احتجت به كل فرقة وما لها وعليها في احتجاجها بعون الله وتوفيقه. فصل: قال الصابرون قد أثنى الله سبحانه على الصبر وأهله ومدحه وأمر به وعلق عليه خير الدنيا والاخرة وقد ذكره الله في كتابه في نحو تسعين موضعا وقد تقدم من النصوص والأحاديث فيه وفي فضله ما يدل على أنه أفضل من الشكر ويكفي في فضله قوله "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" فذكر ذلك في معرض تفضيل الصبر ورفع درجته على الشكر فإنه ألحق الشاكر بالصابر وشبهه به ورتبة المشبه به أعلى من رتبة المشبه وهذا كقوله: "مدمن الخمر كعابد وثن" ونظائر ذلك قالوا وإذا وازنا بين النصوص الواردة في الصبر والواردة في الشكر وجدنا نصوص الصبر اضعافها ولهذا لما كانت الصلاة والجهاد أفضل الاعمال كانت الاحاديث فيهما في سائر الابواب فلا تجد الاحاديث النبوية في باب أكثر منها في باب الصلاة والجهاد قالوا وايضا فالصبر يدخل في كل باب بل في كل مسئلة من مسائل الدين ولهذا كان من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد

ص -112- قالوا وأيضا فالله سبحانه وتعالى علق على الشكر الزيادة فقال {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} وعلق على الصبر الجزاء بغير حساب وايضا فإنه سبحانه أطلق جزاء الشاكرين فقال وسيجزى الله الشاكرين وقيد جزاء الصابرين بالاحسان فقال {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} قالوا وقد صح عن النبي أنه قال: يقول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له الا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به".
وفي لفظ: "كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها قال الله تعالى الا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به" وما ذاك الا لأنه صبر النفس ومنعها من شهواتها كما في الحديث نفسه يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلى ولهذا قال النبي لمن سأله عن أفضل الاعمال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له" ولما كان الصبر حبس النفس عن اجابة داعى الهوى وكان هذا حقيقة الصوم فإنه حبس النفس عن اجابة داعى شهوة الطعام والشراب والجماع فسر الصبر في قوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} أنه الصوم وسمى رمضان شهر الصبر وقال بعض السلف الصوم نصف الصبر وذلك أن الصبر حبس النفس عن اجابة داعى الشهوة والغضب فإن النفس تشتهى الشئ لحصول اللذة بإدراكه وتغضب لنفرتها من المؤلم لها والصوم صبر عن مقتضى الشهوة فقط وهى شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب ولكن من تمام الصوم وكماله صبر النفس عن اجابة داعى الامرين وقد أشار إلى ذلك النبي في الحديث الصحيح وهو قوله: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يجهل ولا يصخب فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل انى صائم" فأرشد إلى تعديل قوى الشهوة والغضب وأن الصائم ينبغى له أن يحتمى من افسادهما لصومه فهذه تفسد صومه وهذه تحبط أجره كما قال في الحديث الاخر: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

ص -113- قالوا ويكفي في فضل الصبر على الشكر قوله تعالى أنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون فجعل فوزهم جزاء صبرهم وقال تعالى والله مع الصابرين لا شئ يعدل معيته لعبده كما قال بعض العارفين ذهب الصابرون بخير الدنيا والاخرة لأنهم نالوا معية الله وقال تعالى واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا وهذا يتضمن الحراسة والكلاءة والحفظ للصبر لحكمه
وقد وعد الصابرين بثلاثة أشياء كل واحد خير من الدنيا وماعليها وهى صلواته تعالى عليهم ورحمته لهم وتخصيصهم بالهداية في قوله تعالى أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون وهذا مفهم لحصر الهدى فيهم وأخبر أن الصبر من عزم الأمور في آيتين من كتابه وأمر رسوله أن يتشبه بصبر أولى العزم من الرسل وقد تقدم ذكر ذلك
قالوا وقد دل الدليل على أن الزهد في الدنيا والتقلل منها مهما أمكن من الاستكثار منها والزهد فيها حال الصابر والاستكثار منها حال الشاكر قالوا وقد سئل المسيح صلوات الله وسلامه عليه عن رجلين مرا بكنز فتخطاه أحدهما ولم يلتفت اليه وأخذه الاخر وأنفقه في طاعة الله تعالى أيهما أفضل فقال الذى لم يلتفت اليه وأعرض عنه أفضل عند الله
قالوا ويدل على صحة هذا أن النبي عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فلم يأخذها وقال بل أجوع يوما وأشبع يوما ولو أخذها لأنفقها في مرضاة الله وطاعته فآثر مقام الصبر عنها والزهد فيها قالوا وقد علم أن الكمال الانسانى في ثلاثة أمور علوم يعرفها

ص -114- وأعمال يعمل بها وأحوال ترتب له على علومه وأعماله وأفضل العلم والعمل والحال العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله والعمل بمرضاته وانجذاب القلب إليه بالحب والخوف والرجاء فهذا أشرف ما في الدنيا وجزاؤه أشرف ما في الاخرة وأجل المقاصد معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا أجل سعادة الدنيا والآخرة وهذا هو الغاية التى تطلب لذاتها وانما يشعر العبد تمام الشعور بأن ذلك عين السعادة اذا انكشف له الغطاء وفارق الدنيا ودخل الاخرة والا فهو في الدنيا وان شعر بذلك بعض الشعور فليس شعوره به كاملا للمعارضات التى عليه والمحن التى امتحن بها والا فليست السعادة في الحقيقة سوى ذلك وكل العلوم والمعارف تبع لهذه المعرفة مرادة لأجلها وتفاوت العلوم في فضلها بحسب افضائها إلى هذه المعرفة وبعدها فكل علم كان أقرب افضاء إلى العلم بالله وأسمائه وصفاته فهو أعلى مما دونه وكذلك حال القلب فكل حال كان أقرب إلى المقصود الذى خلق له فهو أشرف مما دونه وكذلك الاعمال فكل عمل كان أقرب إلى تحصيل هذا المقصود كان أفضل من غيره ولهذا كانت الصلاة والجهاد من أفضل الأعمال وأفضلها لقرب افضائها إلى المقصود وهكذا يجب أن يكون فإن كل ما كان الشيء أقرب إلى الغاية كان أفضل من البعيد عنها فالعمل المعد للقلب المهيئ له لمعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته وخوفه ورجائه أفضل مما ليس كذلك واذا أشتركت عدة أعمال في هذا الافضاء فأفضلها أقربها إلى هذا المفضى ولهذا اشتركت الطاعات في هذا الإفضاء فكانت مطلوبة لله واشتركت المعاصى في حجب القلب وقطعه عن هذه الغاية فكانت منهيا عنها وتأثير الطاعات والمعاصى بحسب درجاتها
وها هنا أمر ينبغى التفطن له وهو أنه قد يكون العمل المعين أفضل منه في حق غيره فالغنى الذى بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شئ منه فصدقته وايثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة والشجاع الشديد

الذى يهاب العدو سطوته وقوفه في الصف ساعة وجهاده أعداء الله

ص -115- أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع والعالم الذى قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح وولى الامر الذى قد نصبه الله للحكم بين عباده جلوسه ساعة للنظر في المظالم وانصاف المظلوم من الظالم واقامة الحدود ونصر المحق وقمع المبطل أفضل من عبادة سنين من غيره ومن غلبت عليه شهوة النساء فصومه له أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته وتأمل تولية النبي لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما من أمرائه وعماله وترك تولية ابى ذر بل قال له: "إنى أراك ضعيفا وانى أحب لك ما أحب لنفسى لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" وأمره وغيره بالصيام وقال: "عليك بالصوم فانه لا عدل له" وأمر آخر بأن لا يغضب وأمر ثالثا بأن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله ومتى أراد الله بالعبد كمالا وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له قابل له قد هيئ له فاذا استفرغ وسعه على غيره وفاق الناس فيه كما قيل

ما زال يسبق حتى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر
وهذا كالمريض الذى يشكو وجع البطن مثلا اذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به واذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف داءه فالشح المطاع مثلا من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها وكذلك داء اتباع الهوى والاعجاب بالنفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع في العلم والذكر والزهد وانما يزيله اخراجه من القلب بضده ولو قيل ايما افضل الخبز أو الماء لكان الجواب أن هذا في موضعه أفضل وهذا في موضعه أفضل
واذا عرفت هذه القاعدة فالشكر ببذل المال عمل صالح يحصل به للقلب حال فهو دواء للداء الذى في القلب يمنعه من المقصود وأما

ص -116- الفقير الزاهد فقد استراح من هذا الداء والدواء وتوفرت قوته على استفراغ الوسع في حصول المقصود
ثم أوردوا على أنفسهم سؤالا فقالوا فإن قيل فقد حث الشرع على الاعمال وانفصلوا عنه بأن قالوا الطبيب اذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء يراد لعينه ولا أنه أفضل من الشفاء الحاصل به ولكن الاعمال علاج لمرض القلوب ومرض القلوب مما لا يشعر به غالبا فوقع الحث على العمل المقصود وهو شفاء القلب فالفقير الآخذ لصدقتك يستخرج منك داء البخل كالحجام يستخرج منك الدم المهلك
قالوا واذا عرف هذا عرف أن حال الصابر حال المحافظ على الصحة والقوة وحال الشاكر حال المتداوى بأنواع الأدوية لإزالة مواد السقم فصل قال الشاكرون لقد تعديتم طوركم وفضلتم مقاما غيره أفضل منه وقدمتم الوسيلة على الغاية والمطلوب لغيره على المطلوب لنفسه والعمل الكامل على الأكمل والفاضل على الأفضل ولم تعرفوا للشكر حقه ولا وفيتموه مرتبته وقد قرن تعالى ذكره الذى هو المراد من الخلق بذكره وكلاهما هو المراد بالخلق والأمر والصبر خادم لهما ووسيلة اليهما وعونا عليهما قال تعالى اذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون
وقرن سبحانه الشكر بالإيمان وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به فقال {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} أى ان وفيتم ما خلقتم له وهو الشكر والايمان فما أصنع بعذابكم
هذا وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده فقال {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ

ص -117- عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقسم الناس إلى شكور وكفور فأبغض الأشياء اليه الكفر وأهله وأحب الأشياء اليه الشكر وأهله قال تعالى في الانسان {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}
وقال نبيه سليمان {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وقال تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وقال تعالى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وهذا كثير في القرآن يقابل سبحانه بين الشكر والكفر فهو ضده قال تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} والشاكرون هم الذين ثبتوا على نعمة الايمان فلم ينقلبوا على أعقابهم وعلق سبحانه المزيد بالشكر والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره وقد وقف سبحانه كثيرا من الجزاء على المشيئة كقوله {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} وقوله في الاجابة {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وقوله في الرزق {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} وفي المغفرة {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} والتوبة {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وأطلق جزاء الشكر اطلاقا حيث ذكر كقوله وسنجزى الشاكرين وسيجزى الله الشاكرين ولما عرف عدو الله ابليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال {ثُمَّ

لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ووصف الله سبحانه الشاكرين بأنهم قليل من عباده فقال تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.

ص -118- وذكر الامام أحمد عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول اللهم اجعلنى من الاقلين فقال ما هذا فقال يا أمير المؤمنين ان الله قال وما آمن معه الا قليل وقال تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقال { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فقال عمر صدقت وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الارض بالشكر فقال ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر وخطاب العباد بأنهم ذريته اشارة إلى الاقتداء به فانه أبوهم الثانى فان الله تعالى لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلا الا من ذريته كما قال تعالى وجعلنا ذريته هم الباقين فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر فانه كان عبدا شكورا

وقد أخبر سبحانه انما يعبده من شكره فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال واشكروا الله ان كنتم اياه تعبدون وأمر عبده موسى ان يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال تعالى يا موسى انى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وأول وصية وصى الله بها الانسان بعد ماعقل عنه بالشكر له وللوالدين فقال ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير
وأخبر أن رضاه في شكره فقال تعالى وان تشكروا يرضه لكم وأثنى سبحانه على خليله ابراهيم بشكر نعمه فقال ان ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم فأخبر عنه سبحانه بأنه أمة أى قدوة يؤتم به في الخير وانه قانتا لله والقانت هو

المطيع المقيم على طاعته والحنيف هو المقبل على الله المعرض عما سواه ثم ختم له بهذه

ص -119- الصفات بأنه شاكر لأنعمه فجعل الشكر غاية خليله

وأخبر سبحانه أن الشكر هو الغاية من خلقه وأمره بل هو الغاية التى خلق عبيده لأجلها والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون فهذه غاية الخلق وغاية الأمر فقال ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ويجوز أن يكون قوله لعلكم تشكرون تعليلا لقضائه لهم بالنصر ولأمره لهم بالتقوى ولهما معا وهو الظاهر فالشكر غاية الخلق والامر وقد صرح سبحانه بأنه غاية أمره وارساله الرسول في قوله تعالى كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون قالوا فالشكر مراد لنفسه والصبر مراد لغيره والصبر انما حمد لافضائه وايصاله إلى الشكر فهو خادم الشكر وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قام حتى تفطرت قدماه فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورا" وثبت في المسند والترمذى أن النبي قال لمعاذ: "والله انى لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
وقال ابن أبى الدنيا حدثنا اسحاق بن اسماعيل حدثنا أبو معاويه وجعفر بن عون عن هشام بن عروة قال كان من دعاء النبي: "اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".قال وحدثنا محمود بن غيلان حدثنا المؤمل بن اسماعيل حدثنا حماد بن سلمه حدثنا حميد الطويل عن طلق بن حبيب عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله قال: "أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة: قلبا شاكرا ولسانا

ص -120- ذاكرا وبدنا على البلاء صابرا وزوجة لا تبغيه خونا في نفسها ولا في ماله" وذكر ايضا من حديث القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله الا كتب الله له شكرها وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر الله له قبل أن يستغفره وإن الرجل يشترى الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له".
وقد ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكله فيحمده عليها ويشرب الشربه فيحمده عليها" فكان هذا الجزاء العظيم الذى هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى ورضوان من الله أكبر في مقابلة شكره بالحمد وذكر ابن أبى الدنيا من حديث عبد الله بن صالح حدثنا أبو زهير يحيى بن عطارد القرشى عن أبيه قال قال رسول الله: "لا يرزق الله عبدا الشكر فيحرمه الزيادة" لأن الله تعالى يقول لئن شكرتم لأزيدنكم وقال الحسن البصرى: "إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا" ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ لأنه يحفظ النعم الموجودة والجالب لأنه يجلب النعم المفقودة وذكر ابن أبى الدنيا عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال لرجل من همذان: "إن النعمة موصولة بالشكر والشكر يتعلق بالمزيد وهما مقرونان في قرن فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد"
وقال عمر بن عبد العزيز قيدوا نعم الله بشكر الله وكان يقال الشكر قيد النعم وقال مطرف بن عبد الله "لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن ابتلى فأصبر" وقال الحسن "أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر" وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال وأما بنعمة ربك فحدث والله تعالى يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته فإن ذلك شكرها بلسان الحال وقال على بن الجعدى سمعت

ص -121- سفيان الثورى يقول إن داود عليه الصلاة والسلام قال الحمد لله حمدا كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله فأوحى الله اليه يا داود أتعبت الملائكة
وقال شعبة حدثنا المفضل بن فضالة عن أبى رجاء العطاردى قال خرج علينا عمران بن الحصين وعليه مطرف خز لم نره عليه قبل ولا بعد فقال ان رسول الله قال: "إذا أنعم الله على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
وذكر شعبة عن أبى اسحاق عن أبى الأحوص عن أبيه قال: "أتيت رسول الله وأنا قشف الهيئة فقال هل لك من مال قال قلت نعم قال من أى المال قلت من كل المال قد آتانى الله من الابل والخيل والرقيق والغنم قال فإذا آتاك الله مالا فليرى عليك".
وفي بعض المراسيل "ان الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه" وروى عبد الله بن يزيد المقرى عن أبى معمر عن بكير بن عبد الله رفعه: "من أعطى خيرا فرؤى عليه سمى حبيب الله محدثا بنعمة الله ومن أعطى خيرا ولم ير عليه سمى بغيض الله معاديا لنعمة الله" وقال فضيل بن عياض كان يقال من عرف نعمة الله بقلبه وحمده بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة لقول الله تعالى ولئن شكرتم لأزيدنكم وقال من شكر النعمة أن يحدث بها وقد قال تعالى: "يا ابن آدم إذا كنت تتقلب في نعمتى وأنت تتقلب في معصيتى فاحذرنى لأصرعك بين معاصى يا ابن آدم اتقنى ونم حيث شئت".

ص -122- وقال الشعبى الكشر نصف الايمان واليقين الايمان كله وقال أبو قلابة لا تضركم دنيا شكرتموها وقال الحسن إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر فإذا شكروه كان قادرا على أن يزيدهم وإذا كفروه كان قادرا على أن يبعث نعمته عليهم عذابا وقد ذم الله سبحانه الكنود وهو الذى لا يشكر نعمه قال الحسن {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} يعد المصائب وينسى النعم وقد أخبر النبي إن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب قال: "لو أحسنت إلى إحداههن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط" فإذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج وهى في الحقيقة من الله فكيف بمن ترك شكر نعمة الله
يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى النعم
ذكر ابن أبى الدنيا من حديث أبى عبد الرحمن السلمي عن الشعبى عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله: "التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله والجماعة بركة والفرقة عذاب" وقال مطرف بن عبد الله نظرت في العافية والشكر فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة ولأن أعافى أعافي فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر ورأى بكر بن عبد الله المزنى حمالا عليه حمله وهو يقول الحمد الله أستغفر الله قال فأنتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له أما تحسن غير هذا قال بلى أحسن خيرا كثيرا أقرأ كتاب الله غير أن العبد بين نعمة وذنب فأحمد الله على نعمه السابغة وأستغفره لذنوبى فقلت الحمال أفقه من بكر.
وذكر الترمذى من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: "خرج رسول الله على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا لا بشئ من

ص -123- نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" وقال مشعر لما قيل لآل داود {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} لم يأت على القوم ساعة الا وفيهم مصل
وقال عون بن عبد الله قال بعض الفقهاء انى رأيت في أمرى لم أر خيرا الا شر معه الا المعافاة والشكر فرب شاكر في بلائه ورب معافى غير شاكر فإذا سألتم الله فاسألوهما جميعا وقال أبو معاويه لبس عمر بن الخطاب قميصا فلما بلغ ترقوته قال الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى وأتجمل به في حياتى ثم مد يديه فنظر شيئا يزيد على يديه فقطعه ثم أنشأ يحدث قال سمعت رسول الله يقول: "من لبس ثوبا أحسبه جديدا فقال حين يبلغ ترقوته أو قال قبل أن يبلغ ركبتيه مثل ذلك ثم عمد إلى ثوبه الخلق فكسا به مسكينا لم يزل في جوار الله وفي ذمة الله وفي كنف الله حيا وميتا ما بقى من ذلك الثوب سلك".
وقال عون بن عبد الله لبس رجل قميصا جديدا فحمد الله فغفر له فقال رجل ارجع حتى أشترى قميصا فألبسه وأحمد الله وقال شريح ما أصيب عبد بمصيبة الا كان لله عليه فيها ثلاث نعم ألا تكون كانت في دينه وألا تكون أعظم مما كانت وأنها لا بد كائنه فقد كانت
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ما قلب عمر بن عبد العزيز بصره إلى نعمة أنعم الله بها عليه الا قال اللهم انى أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرا وأن أكفرها بعد أن عرفتها وأن أنساها ولا أثنى بها وقال روح بن القاسم تنسك رجل فقال لا آكل الخبيص لا أقوم بشكره فقال الحسن هذا أحمق وهل يقوم بشكر الماء البارد
وفي بعض الآثار الالهية يقول الله عزوجل: "ابن آدم خيرى اليك نازل وشرك إلى صاعد أتحبب اليك بالنعم وتتبغض إلى بالمعاصى ولا يزال ملك كريم قد عرج إلى منك بعمل قبيح".
قال ابن أبى الدنيا حدثنى أبو على قال كنت أسمع جارا لي يقول في

ص -124- الليل: "يا الهى خيرك على نازل وشرى اليك صاعد كم من ملك كريم قد صعد اليك منى بعمل قبيح وأنت مع غناك عنى تتحبب إلى بالنعم وأنا مع فقرى اليك وفاقتى أتمقت اليك بالمعاصى وأنت في ذلك تجبرنى وتسترنى وترزقنى وكان أبو المغيرة اذا قيل له كيف أصبحت يا أبا محمد أصبحنا مغرقين في النعم عاجزين عن الشكر يتحبب الينا ربنا وهو غنى عنا ونتمقت اليه ونحن اليه محتاجون وقال عبد الله بن ثعلبة الهى من كرمك أنك تطاع ولا تعصى ومن حلمك أنك تعصى وكأنك لا ترى وأى زمن لم يعصك فيه سكان أرضك وأنت بالخير عواد وكان معاوية بن قرة اذا لبس ثوبا جديدا قال بسم الله والحمد لله وقال أنس بن مالك ما من عبد توكل بعبادة الله الا عزم الله السموات والارض تعبر رزقه فجعله في أيدى بنى آدم يعملونه حتى يدفع عنه اليه فإن العبد قبله أوجب عليه الشكر وان أباه وجد الغنى الحميد عبادا فقراء يأخذون رزقه ويشكرون له".
وقال يونس بن عبيد: "قال رجل لأبى تميمة كيف أصبحت قال أصبحت بين نعمتين لا أدرى أيتهما أفضل ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرنى بها أحد ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملى".
وروى ابن أبى الدنيا عن سعيد المقبرى عن أبيه عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام قال: "يارب ما الشكر الذى ينبغى لك قال لا يزال لسانك رطبا من ذكرى" وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي فانطلقنا معه فلما طعم وغسل يديه قال الحمد لله الذى يطعم ولا يطعم من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربى ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه الحمد لله الذى أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسى من العرى وهدى من الضلالة وبصر من العمى وفضل على كثير من خلقه تفضيلا الحمد لله رب العالمين.

ص -125- وفي مسند الحسن بن الصلاح من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت ويذكر عن عائشة رضى الله عنها أن النبي دخل عليها فرآى كسرة ملقاة فمسحها وقال يا عائشة أحسنى جوار نعم الله فإنها فلما نفرت عن أهل بيت فكادت أن ترجع اليهم" ذكره ابن أبى الدنيا.
وقال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا صالح عن أبى عمران الجونى عن أبى الخلد قال قرأت في مسألة داود أنه قال: "يا رب كيف لى أن أشكر وأنا لا أصل إلى شكرك الا بنعمك" قال فأتاه الوحى: "يا داود أليس تعلم أن الذى بك من النعم منى قال بلى يا رب قال فإنى نرضى بذلك منك شكرا".
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبو موسى الانصارى حدثنا أبو الوليد عن سعيد ابن عبد العزيز قال كان من دعاء داود سبحان مستخرج الشكر بالعطاء ومستخرج الدعاء بالبلاء وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنى الأعمش عن المنهال عن عبد الله بن الحارث قال أوحى الله إلى داود أحبنى وأحب عبادتى وحببنى إلى عبادى قال يا رب هذا حبك وحب عبادتك فكيف أحببك إلى عبادك قال تذكرنى عندهم فإنهم لا يذكرون منى إلا الحسن فجل جلال ربنا وتبارك اسمه وتعالى جده وتقدست أسماؤه وجل ثناؤه ولا اله غيره
وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق بن عمران قال سمعت وهبا يقول وجدت في كتاب آل داود بعزتى ان من اعتصم بى فإن كادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإنى أجعل له من بين ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بى فإنى أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفي بى لعبدى مالا اذا كان

ص -126- عبدى في طاعتى أعطيته قبل أن يسألنى وأجبته قبل أن يدعونى وإنى أعلم بحاجته التى ترفق به من نفسه.
وقال أحمد حدثنا يسار حدثنا حفص حدثنا ثابت قال كان داود عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن ساعة من ليل أو نهار الا وانسان من آل داود قائم يصلى فيها قال فعمهم تبارك وتعالى في هذه الآية {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
قال أحمد وحدثنا جابر بن زيد عن المغيرة بن عيينة قال داود يا رب هل بات أحد من خلقك الليلة أطول ذكرا لك منى فأوحى الله اليه نعم الضفدع وأنزل الله عليه {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} قال يا رب كيف أطيق شكرك وأنت الذى تنعم على ثم ترزقنى على النعمة الشكر ثم تزيدنى نعمة بعد نعمة فالنعم منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك قال الآن عرفتنى يا داود قال أحمد وحدثنا عبد الرحمن حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن قال نبى الله داود: "الهى لو أن لكل شعرة منى لسانين يسبحانك الليل والنهار والدهر ما وفيت حق نعمة واحدة".
وذكر ابن أبى الدنيا عن أبى عمران الجونى عن أبى الخلد قال قال موسى يا رب كيف لى أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندى من نعمك لا يجازى بها عملى كله قال فأتاه الوحى يا موسى الآن شكرتنى
قال بكر بن عبد الله ما قال عبد قط الحمد لله الا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله فجزاء تلك النعمة أن يقول الحمد لله فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد نعم الله وقال الحسن سمع نبى الله رجلا يقول الحمد لله بالاسلام فقال انك لتحمد الله على نعمة عظيمة وقال خالد بن معدان سمعت عبد الملك بن مروان يقول: "ما قال عبد كلمة أحب إلى الله وأبلغ في الشكر عنده من أن يقول الحمد لله الذى أنعم علينا وهدانا للإسلام".

ص -127- وقال سليمان التيمى ان الله سبحانه أنعم على عبده على قدره وكلفهم الشكر على قدرتهم وكان الحسن اذا ابتدأ حديثه يقول الحمد لله اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا لك الحمد بالاسلام والقرآن ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة كبت عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمننا وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا فلك الحمد على ذلك حمدا كثيرا لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة أو حى أو ميت أو شاهد أو غائب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد اذا رضيت
وقال الحسن قال موسى يا رب كيف يستطيع آدم أن يؤدى شكر ما صنعت اليه خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسكنته جنتك وأمرت الملائكة فسجدوا له فقال يا موسى علم أن ذلك منى فحمدنى عليه فكان ذلك شكر ما صنعت اليه وقال سعد بن مسعود الثقفي انما سمى نوح عبدا شكورا لأنه لم يلبس جديدا ولم يأكل طعاما الا حمد الله وكان على بن أبى طالب اذا خرج من الخلاء مسح بطنه بيده وقال يا لها من نعمة لو يعلم العباد شكرها
وقال مخلد بن الحسين كان يقال الشكر ترك المعاصى وقال أبو حازم كان نعمة لا تقرب من الله فهى بلية وقال سليمان ذكر النعم يورث الحب لله وقال حماد بن زيد حدثنا ليث عن أبى بردة قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لى ألا تدخل بيتا دخله النبي ونطعمك سويقا وتمرا ثم قال ان الله اذا جمع الناس غدا ذكرهم بما أنعم عليهم فيقول العبد ما آية ذلك فيقول آية ذلك انك كنت في كربة كذا وكذا قد دعوتنى فكشفتها وآية ذلك أنك كنت في سفر كذا وكذا فاستصحبتنى فصحبتك قال يذكره حتى يذكر فيقول آية ذلك أنك خطبت فلانة بنت فلان وخطبها معك خطاب فزوجتك ورددتهم يقف

ص -128- عبده بين يديه فيعدد عليه نعمه فبكى ثم بكى ثم قال انى لأرجو الله أن لا يقعد الله عبدا بين يديه فيعذبه
وروى ليث بن أبى سليم عن عثمان عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله: "يؤتى بالنعم يوم القيامة والحسنات والسيئات فيقول الله عزوجل لنعمة من نعمه خذى حقك من حسناته فما تترك له من حسنة الا ذهبت بها".
وقال بكر بن عبد الله المزنى ينزل بالعبد الامر فيدعو الله فيصرف عنه فيأتيه الشيطان فيضعف شكره يقول ان الامر كان أيسر مما تذهب اليه قال أو لا يقول العبد كان الامر أشد مما أذهب اليه ولكن الله صرفه عنى وذكر ابن أبى الدنيا عن صدقة بن يسار قال بينا داود عليه السلام في محرابه اذ مرت به ذره فنظر اليها وفكر في خلقها وعجب منها وقال ما يعبؤ الله بهذه فأنطقها الله فقالت يا داود أتعجبك نفسك فو الذى نفسى بيده لأنا على ما آتانى الله من فضله أشكر منك على ما آتاك الله من فضله
وقال أيوب ان من أعظم نعمة الله على عبده أن يكون مأمونا على ماجاء به النبي وقال سفيان الثورى كان يقال ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء معصيبة وقال زازان مما يجب لله على ذى النعمة بحق نعمته أن لا يتوصل بها إلى معصية قال ابن أبي الدنيا أنشدنى محمود الوراق:
اذا كان شكرى نعمة الله نعمة فكيف وقوع الشكر الا بفضله
على له في مثلها يجب الشكر اذا مس بالسراء عم سرورها
وان طالت الايام واتصل العمر وما منهما الا له فيه منة
وان مس بالضراء أعقبها الاجر تضيق بها الاوهام والبر والبحر
وقد روى الدراوردى عن عمرو بن أبى عمرو عن سعيد المقبرى عن أبى

ص -129- هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله يعنى قال الله عز وجل: "ان المؤمن عندى بمنزلة كل خير يحمدنى وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه" ومر محمد بن المنكدر بشاب يغامز امرأة فقال يا فتى ما هذا جزاء نعم الله عليك وقال حماد بن سلمة عن ثابت قال قال أبو العاليه انى لأرجو أن لا يهلك عبد بين اثنتين نعمة يحمد الله عليها وذنب يستغفر منه
وكتب ابن السماك إلى محمد بن الحسن حين ولى القضاء بالرقة أما بعد فلتكن التقوى من بالك على كل حال وخف الله من كل نعمة أنعم بها عليك من قلة الشكر عليها مع المعصية بها فان في النعم حجة وفيها تبعة فأما الحجة بها فالمعصية بها وأما التبعة فيها فقلة للشكر عليها فعفى الله عنك كلما ضيعت من شكر أو ركبت من ذنب أو قصرت من حق ومر الربيع بن أبى راشد برجل به زمانة فجلس يحمد الله ويبكى قيل له ما يبكيك قال ذكرت أهل الجنة وأهل النار فشبهت أهل الجنة بأهل العافية وأهل النار بأهل البلاء فذلك الذى أبكانى
وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي: "إذا أحب أحدكم أن يرى قدر نعمة الله عليه فلينظر إلى من تحته ولا ينظر إلى من فوقه" قال عبد الله بن المبارك أخبرنى يحيى بن عبد الله قال سمعت أبى هريرة فذكره
وقال ابن المبارك حدثنا يزيد بن ابراهيم عن الحسن قال قال أبو الدرداء من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل عمله وحضر عذابه قال ابن المبارك أخبرنا مالك بن أنس عن اسحق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس رضى الله قال سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه سلم على رجل فرد عليه السلام فقال عمر للرجل كيف أنت قال الرجل أحمد اليك الله قال هذا أردت منك قال ابن المبارك وأخبرنا مسعود عن علقمة بن مرقد عن ابن عمر رضى الله عنهما قال لعلنا نلتقى في اليوم مرارا يسأل بعضنا عن بعض ولم يرد بذلك إلا

ص -130- ليحمد الله عزوجل وقال مجاهد في قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} قال لا إله الا الله وقال ابن عيينة ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله قال وان لا اله الا الله لهم في الآخرة كالماء في الدنيا وقال بعض السلف في خطبته يوم عيد أصبحتم زهرا وأصبح الناس غبرا أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون واصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون واصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون فبكى وأبكاهم
وقال عبد الله بن قرط الأزدى وكان من الصحابة على المنبر وكان يوم أضحى ورأى على الناس ألوان الثياب يا لها من نعمة ما أشبعها ومن كرامة ما أظهرها ما زال عن قوم شيئا أشد من نعمة لا يستطيعون ردها وانما تثبت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم
وقال سلمان الفارسى رضى الله عنه ان رجلا بسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله ويثنى عليه حتى لم يكن له فراش الا بارية قال فجعل يحمد الله ويثنى عليه حتى لم يكن له فراش إلا بارية قال فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب البارية أرأيتك أنت على ما تحمد الله قال أحمده على ما لو أعطيت به ما أعطى الخلق لم أعطهم اياه قال وما ذاك قال أرأيتك بصرك أرأيتك لسانك أرأيتك يديك أرايتك رجليك وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله فقال له يونس أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم قال الرجل لا قال فبيديك مائه ألف قال لا فبرجليك مائة الف قال لا قال فذكره نعم الله عليه فقال يونس أرى عندك مئين الالوف وأنت تشكو الحاجه وكان ابو الدرداء يقول الصحة الملك
وقال جعفر بن محمد رضى الله عنه فقد ابى بغلة له فقال ان ردها الله على لأحمدنه بمحامد يرضاها فما لبث أن أتى بسرجها ولجامها فركبها فلما

ص -131- استوى عليها وضم اليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال الحمد لله لم يزد عليها فقيل له في ذلك فقال هل تركت وأبقيت شيئا جعلت الحمد كله لله
وروى ابن أبى الدنيا من حديث سعد بن اسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال: "بعث رسول الله بعثا من الانصار وقال ان سلمهم الله وغنمهم فإن لله على في ذلك شكرا قال فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه سمعناك تقول ان سلمهم الله وغنمهم فإن لله على في ذلك شكرا قال قد فعلت اللهم لك الحمد شكرا ولك المن فضلا".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال محمد بن المنكدر لأبى حازم يا أبا حازم ما أكثر من يلقانى فيدعو لى بالخير ما أعرفهم وما صنعت اليهم خيرا قط فقال أبو حازم لا تظن أن ذلك من قبلك ولكن انظر إلى الذى ذلك من قبله فاشكره وقرأ أبو عبد الرحمن {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وقال على بن الجعد حدثنا عبد العزيز بن أبى سلمة الماجشون حدثنى من أصدقه أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان يقول في دعائه أسألك تمام النعمة في الاشياء كلها والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا والخيرة في جميع ما تكون فيه الخيرة بجميع ميسر الامور كلها لا معسورها يا كريم
وقال الحسن ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله الا كان ما أعطى أكثر مما أخذ قال ابن أبى الدنيا وبلغنى عن سفيان بن عيينة أنه قال هذا خطأ لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الله ثم قال وقال بعض أهل العلم انما تفسير هذا أن الرجل اذا أنعم الله عليه نعمة وهو ممن يجب عليه أن يحمده عرفه ما صنع به فيشكر الله كما ينبغى له أن يشكره فكان الحمد له أفضل
قلت لا يلزم الحسن ما ذكر عن ابن عيينة فإن قوله الحمد

ص -132- لله نعمة من نعم الله والنعمة التى حمد الله عليها ايضا نعمة من نعم الله وبعض النعم أجل من بعض فنعمة الشكر أجل من نعمة المال والجاه والولد والزوجة ونحوها والله أعلم وهذا لا يستلزم أن يكون فعل العبد أفضل من فعل الله وان دل على أن فعل العبد للشكر قد يكون أفضل من بعض مفعول الله وفعل العبد هو مفعول الله ولا ريب أن بعض مفعولاته أفضل من بعض
وقال بعض أهل العلم لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها وذلك أن الله لم يرض لنبيه الدنيا فإن أكون فيما رضى الله لنبيه وأحب له أحب إلى من أن أكون فيما كره له وسخطه
وقال ابن أبى الدنيا بلغنى عن بعض العلماء أنه قال ينبغى للعالم أن يحمد الله على ما زوى عنه من شهوات الدنيا كما يحمده على ما أعطاه وأين يقع ما أعطاه الله والحساب يأتى عليه إلى ما عافاه الله ولم يبتله به فيشغل قلبه ويتعب جوارحه فيشكر الله على سكون قلبه وجمع همه
وحدث عن ابن أبى الحوارى قال جلس فضيل بن عياض وسفيان بن عيينة ليلة إلى الصباح يتذاكران النعم فجعل سفيان يقول أنعم الله علينا في كذا وكذا أنعم الله علينا في كذا فعل بنا كذا وحدثنا عبد الله بن داود عن سفيان في قوله {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر وقال غير سفيان كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وسئل ثابت البنانى عن الاستدراج فقال ذلك مكر الله بالعباد المضيعين وقال يونس في تفسيرها ان العبد اذا كانت له عند الله منزلة فحفظها وبقى عليها ثم شكر الله بما أعطاه أعطاه أشرف منها واذا هو ضيع الشكر استدرجه الله وكان تضييعه الشكر استدراجا وقال أبو حازم نعمة الله فيما زوى عنى من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطانى منها انى رأيته أعطاها أقواما فهلكوا

ص -133- وكل نعمة لا تقرب من الله فهى بلية واذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره
وذكر كاتب الليث عن هقل عن الاوزاعى أنه وعظهم فقال في موعظته أيها الناس تقووا بهذه النعم التى أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التى تتطلع على الأفئدة فإنكم في دار الثوى فيها قليل وأنتم فيها مرجون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفعها وزهرتها فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما وأعظم آثارا فقطعوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد فما لبثت الايام والليالى أن طوت مددهم وعفت آثارهم وأخوت منازلهم وأنست ذكرهم فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا كانوا يلهون آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين ثم أنكم قد علمتم الذى نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله فأصبح كثير منهم في دارهم جاثمين واصبح الباقون ينظرون في آثارهم نقمة وزوال نعمة ومساكن خاويه فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم وعبرة لمن يخشى وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ودنيا مقبوضه وزمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه فلم يبق منه الا حماة شر وصبابة كدر وأهاويل عبر وعقوبات غير وارسال فتن وتتابع زلازل ورذلة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر ولا تكونوا أشباها لمن خدعه الامل وغره طول الاجل وتبلغ بطول الامانى نسأل الله أن يجعلنا واياكم ممن وعى انذاره وعقل بشره فمهد لنفسه
وكان يقال الشكر ترك المعصيه وقال ابن المبارك قال سفيان ليس بفقيه فمن لم يعد البلاء نعمه والرخاء مصيبه وكان مروان بن الحكم اذا ذكر الاسلام قال بنعمة ربى وصلت اليه لا بما قدمت يدى ولا بإرادتى انى كنت خاطئا
وكم من مدخل لو مت فيه لكنت فيه نكالا في العشيرة
وقيت السوء والمكروه فيه وظفرت بنعمة منه كبيرة

ص -134- وكم من نعمة لله تمسى وتصبح في العيان وفي السريرة

ودعى عثمان بن عفان رضى الله عنه إلى قوم على ريبة فانطلق ليأخذهم فتفرقوا قبل أن يبلغهم فأعتق رقبة شكرا لله أن لا يكون جرى على يديه خزى مسلم قال يزيد بن هرون أخبرنا أصبغ بن يزيد أن نوحا عليه السلام كان اذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذى أذاقنى لذته وأبقى منفته في جسدى وأذهب عنى أذاه فسمى عبدا شكورا وقال ابن أبى الدنيا حدثنى العباس بن جعفر عن الحارث بن شبل قال حدثتنا أم النعمان أن عائشة حدثتها عن النبي أنه لم يقم عن خلاء قط الا قاله وقال رجل لأبى حازم ما شكر العينين يا أبا حازم قال ان رأيت بهما خيرا أعلنته وان رأيت بهما شرا سترته قال فما شكر الاذنين قال ان سمعت بهما خيرا وعيته وان سمعت بهما شرا دفعته قال فما شكر اليدين قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما ولا تمنع حقا لله هو فيهما قال فما شكر البطن قال أن يكون أسفله طعاما وأعلاه علما قال فما شكر الفرج قال قال الله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} قال فما شكر الرجلين قال ان علمت ميتا تغبطه استعملت بهما عمله وان مقته رغبت عن عمله وأنت شاكر لله
وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه فما ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر
وذكر عبد الله بن المبارك أن النجاشى أرسل ذات يوم إلى جعفر وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان جالس على التراب قال جعفر فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال فلما رأى ما في وجوهنا قال انى أبشركم بما يسركم انه جاءنى من نحو أرضكم عين لى فأخبرنى أن الله قد نصر نبيه وأهلك عدوه وأسر فلان وفلان وقتل فلان وفلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الاراك كأنى أنظر اليه كنت أرعى به لسيدى رجل من

ص -135- بنى ضمرة فقال له جعفر ما بالك جالسا على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الاخلاق قال انا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام ان حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عندما أحدث الله لهم من نعمه فلما أحدث الله لى نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع
وقال حبيب بن عبيد ما ابتلى الله عبدا ببلاء إلا كان له عليه فيه نعمة ألا يكون أشد منه وقال عبد الملك بن اسحاق ما من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف صبره
وقال سفيان الثورى لقد أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه اليه فيها وكان رسول الله اذا جاءه أمر يسره خر لله ساجدا شكرا له عزوجل ذكره أحمد وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: "خرج علينا النبي فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود فقلت يا رسول الله سجدت سجدة حسبت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها فقال ان جبريل أتانى فبشرنى أن الله عز وجل يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله شكرا" ذكره أحمد
وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال خرجنا مع النبي من مكة نريد المدينة فلما كنا قريبا من عزور نزل ثم رفع يديه ودعا الله ساعة ثم خر ساجدا فمكث طويلا ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجدا فعله ثلاثا وقال انى سألت ربى وشفعت لأمتى فأعطانى ثلث أمتى فخررت ساجدا شكرا لربى ثم رفعت رأسى فسألت ربى لأمتى فأعطانى ثلث أمتى فخررت ساجدا لربى ثم رفعت رأسى فسألت ربى ربى فأعطانى الثلث الآخر فخررت ساجدا لربى رواه أبو داود
وذكر محمد بن اسحاق في كتاب الفتوح قال لما جاء المبشر يوم بدر بقتل أبى جهل استحلفه رسول الله ثلاثة أيمان بالله الذى لا اله الا هو لقد رأيته قتيلا فحلف له فخر رسول الله ساجدا.

ص -136- وذكر سعيد بن منصور أن ابى بكر الصديق رضى الله عنه سجد حين جاءه قتل مسيلمة وذكر أحمد أن عليا رضى الله عنه سجد حين وجد ذا الثدية في الخوارج وسجد كعب بن مالك في عهد النبي لما بشر بتوبة الله عليه والقصة في الصحيحين
فإن قيل فنعم الله دائما مستمرة على العبد فما الذى اقتضى تخصيص النعمة الحادثة بالشكر دون الدائمة وقد تكون المستدامة أعظم قيل الجواب من وجوه أحدها أن النعمة المتجددة تذكر بالمستدامة والانسان موكل بالأدنى
الثاني أن هذه النعمة المتجددة تستدعي عبودية مجددة وكان أسهلها على الانسان وأحبها إلى الله السجود شكرا له
الثالث أن المتجددة لها وقع في النفوس والقلوب بها أعلق ولهذا يهنى بها ويعزى بفقدها
الرابع أن حدوث النعم توجب فرح النفس وانبساطها وكثيرا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر والسجود ذل لله وعبودية وخضوع فإذا تلقى به نعمته لسروره وفرح النفس وانبساطها فكان جديرا بدوام تلك النعمة وإذا تلقاها بالفرح الذى لا يحبه الله والاشر والبطر كما يفعله الجهال عندما يحدث الله لهم من النعم كانت سريعة الزوال وشيكة الانتقال وانقلبت نقمة وعادت استدراجا وقد تقدم أمر النجاشى فان الله اذا احدث لعبده نعمة أحب أن يحدث لها تواضعا وقال العلاء بن المغيرة بشرت الحسن بموت الحجاج وهو مختف فخر لله ساجدا
فصل ومن دقيق نعم الله على العبد التى لا يكاد يفطن لها انه يغلق عليه بابه فيرسل الله اليه من يطرق عليه الباب يسأله شيئا من القوت ليعرفه نعمته عليه وقال سلام بن أبى مطيع دخلت على مريض أعوده فاذا هو يئن

ص -137- فقلت له أذكر المطروحين على الطريق أذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم قال ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه أذكرى المطروحين في الطريق اذكرى من لا مأوى له ولا له من يخدمه
وقال عبد الله بن أبى نوح قال لى رجل على بعض السواحل كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب قلت ما أحصى ذلك كثرة قال فهل قصدت اليه في أمر كربك فخذلك قلت لا والله ولكنه أحسن إلى وأعاننى قال فهل سألته شيئا فلم يعطكه قلت وهل منعنى شيئا سألته ما سألته شيئا قط الا أعطانى ولا استعنت به الا أعاننى قال أرأيت لو أن بعض بنى آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك قلت ما كنت أقدر له مكافأة ولا جزاء قال فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له في أداء شكره وهو المحسن قديما وحديثا اليك والله لشكره أيسر من مكافأة عباده انه تبارك وتعالى رضى من العباد بالحمد شكرا وقال سفيان الثورى ما كان الله لينعم على عبد في الدنيا فيفضحه في الآخرة ويحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه
وقال ابن أبى الحوارى قلت لأبى معاوية ما أعظم النعمة علينا في التوحيد نسأل الله أن لا يسلبنا اياه قال يحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه والله أكرم من أن ينعم بنعمة الا أتمها ويستعمل بعمل الا قبله وقال ابن ابى الحوارى قالت لى امرأة أنا في بيتى قد شغل قلبى قلت وما هو قالت أريد أن أعرف نعم الله على في طرفة عين أو أعرف تقصيرى عن شكر النعمة على في طرفة عين قلت تريدين مالا تهتدى اليه عقولنا
وقال ابن زيد انه ليكون في المجلس الرجل الواحد يحمد الله عز وجل فيقضى لذلك المجلس حوائجهم كلهم قال وفي بعض الكتب التى أنزلها الله تعالى أنه قال: "سروا عبدى المؤمن فكان لا يأتيه شئ الا قال الحمد لله ما شاء الله قال روعوا عبدى المؤمن فكان لا يطلع عليه طليعة

ص -138- من طلائع المكروه الا قال الحمد لله الحمد لله فقال الله تبارك وتعالى ان عبدى يحمدنى حين روعته كما يحمدنى حين سررته أدخلوا عبدى دار عزى كما يحمدنى على كل حالاته".
وقال وهب عبد الله عابد خمسين عاما فأوحى الله اليه انى قد غفرت لك قال أى رب وما تغفر لى ولم أذنب فأذن الله لعرق في عنقه يضرب عليه فلم ينم ولم يصل ثم سكن فنام ثم أتاه ملك فشكا اليه فقال ما لقيت من ضربان العرق فقال الملك ان ربك يقول ان عبادتك خمسين سنة تعدل سكون العرق
وذكر ابن أبى الدنيا ان داود قال يارب أخبرنى ما أدنى نعمك على فأوحى الله اليه يا داود تنفس فتنفس قال هذا أدنى نعمى عليك
فصل: وبهذا يتبين معنى الحديث الذى رواه أبو داود من حديث زيد ابن ثابت وابن عباس "ان الله لو عذب اهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو عير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم" والحديث الذى في الصحيح "لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا الا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل فإن اعمال العبد لا توافي نعمة من نعم الله عليه".
أما قول بعض الفقهاء ان من حلف أن يحمد الله بأفضل أنواع الحمد كان بر يمينه أن يقول الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده فهذا ليس بحديث عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة وانما هو اسرائيلى عن آدم وأصح منه الحمد لله غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ولا يمكن حمد العبد وشكره أن يوافي نعمة من نعم الله فضلا عن موافاته جميع نعمه ولا يكون فعل العبد وحمده مكافئا للمزيد ولكن يحمل على وجه يصح وهو أن الذى يستحقه الله سبحانه من الحمد حمدا يكون موافيا لنعمه ومكافئا لمزيده وان لم يقدر العبد أن يأتى به كما اذا قال الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شئ

ص -139- بعد وعدد الرمال والتراب والحصى والقطر وعدد أنفاس الخلائق وعدد ما خلق الله وما هو خالق فهذا اخبار عما يستحقه من الحمد لا عما يقع من العبد من الحمد
فصل وقال أبو المليح قال موسى يا رب ما أفضل الشكر قال أن تشكرنى على كل حال وقال بكر بن عبد الله قلت لأخ لى أوصنى فقال ما أدرى ما أقول غير أنه ينبغى لهذا العبد أن لا يفتر من الحمد والاستغفار فان ابن آدم بين نعمة وذنب ولا تصلح النعمة الا بالحمد والشكر ولا يصلح الذنب الا بالتوبة والاستغفار فأوسعنى علما ما شئت
وقال عبد العزيز بن ابى داود رأيت في يد محمد بن واسع قرحة فكأنه رأى ما شق على منها فقال لى أتدرى ماذا لله على في هذه القرحة من نعمة حين لم يجعلها في حدقتى ولا طرف لسانى ولا على طرف ذكرتى فهانت على قرحته
وروى الجريرى عن أبى الورد عن الحلاج عن معاذ بن جبل رضى الله عنه أن رسول الله أتى على رجل وهو يقول: "اللهم انى أسألك تمام النعمة فقال ابن آدم هل تدرى ما تمام النعمة قال يارسول الله دعوت دعوة أرجو بها الخير فقال ان تمام النعمة فوز من النار ودخول في الجنة".
وقال سهم بن سلمة حدثت أن الرجل اذا ذكر اسم الله على أول طعامه وحمده على آخره لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام
فصل: ويدل على فضل الشكر على الصبر أن الله سبحانه يحب أن يسأل العافية وما يسأل شيئا أحب اليه من العافية كما في المسند عن ابى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قام أبو بكر رضى الله عنه على المنبر ثم قال: "سلوا الله العافية فإنه لم يعط عبدا بعد اليقين خيرا من العافية".
وفي حديث آخر إن الناس لم يعطوا في هذه الدنيا شيئا أفضل من

ص -140- العفو والعافية فسلوهما الله عز وجل وقال لعمه العباس يا عم أكثر من الدعاء بالعافية وفي الترمذى قلت يا رسول الله علمنى شيئا أسأله الله قال سل الله العافية فمكثت أياما ثم جئت فقلت علمنى شيئا أسأله الله فقال لى يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة وقال في دعائه يوم الطائف ان لم يكن بك على غضب فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى فلاذ بعافيته كما استعاذ بها في قوله أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك
وفي حديث آخر "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة" وهذا السؤال يتضمن العفو عما مضى والعافية في الحال والمعافاة في المستقبل بدوام العافية واستمرارها وكان عبد الأعلى التيمى يقول أكثروا من سؤال الله العافية فإن المبتلى وان اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافي الذى لا يأمن البلاء وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم ولو كان البلاء يجر إلى خير ما كنا من رجال البلاء انه رب بلاء قد أجهد في الدنيا وأخزى في الاخرة فما يؤمن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقى له في بقية عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الاخرة ثم يقول بعد ذلك الحمد لله الذى إن نعد نعمه لا نحصيها وإن ندأب له عملا لا نجزيها وإن نعمر فيها لا نيليها ومر رسول الله برجل يسأل الله الصبر فقال لقد سألت البلاء فاسأل العافية وفي صحيح مسلم أنه عاد رجلا قد هفت أى هزل فصار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشئ أو تسأله اياه قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبنى به في الاخرة فعجله لى في الدنيا فقال رسول الله سبحانه لا تطيقه ولا تستطيعه أفلا قلت اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار فدعا الله له فشفاه وفي الترمذى من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال دعاء حفظته من رسول الله لا أدعه: "اللهم اجعلنى

أعظم شكرك وأكثر ذكرك وأتبع نصيحتك وأحفظ وصيتك".

ص -141- وقال شيبان كان الحسن اذا جلس مجلسا يقول لك الحمد بالاسلام ولك الحمد بالقرآن ولك الحمد بالأهل والمال بسطت رزقنا وأظهرت أمننا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك أعطيتنا فلك الحمد كثيرا كما تنعم كثيرا أعطيت خيرا كثيرا وصرفت شرا كثيرا فلوجهك الجليل الباقى الدايم الحمد وكان بعض السلف يقول اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو عافية أو كرامة في دين أو دنيا جرت علينا فيما مضى وهى جارية علينا فيما بقى فانها منك وحدك لا شريك لك فلك الحمد بذلك علينا ولك المن ولك الفضل ولك الحمد عدد ما أنعمت به علينا وعلى جميع خلقك لا اله الا أنت

وقال مجاهد اذا كان ابن عمر في سفر فطلع الفجر رفع صوته ونادى سمع سامع بحمد الله ونعمه وحسن بلائه علينا ثلاثا اللهم صاحبنا فأفضل علينا عائذ بالله من النار ولا حول ولا قوة الا بالله ثلاثا
وذكر الامام أحمد أن الله سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام يا موسى كن يقظان مرتادا لنفسك أخدانا وكل خدن لا يواتيك على مسرتى فلا تصحبه فإنه عدو لك وهو يقسى قلبك وأكثر من ذكرى حتى تستوجب الشكر وتستكمل المزيد وقال الحسن خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمنى وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى فدبوا على وجه الارض منهم الاعمى والاصم والمبتلى فقال آدم يا رب ألا سويت بين ولدى قال يا آدم انى أريد أن أشكر
وفي السنن عنه من قال حين يصبح: "اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر الا أدى شكر ذلك اليوم ومن قال ذلك حين يمسى فقد أدى شكر ليلته" ويذكر عن النبي من ابتلى فصبر وأعطى فشكر وظلم فغفر وظلم فاستغفر أولئك لهم الامن وهم مهتدون ويذكر عنه أنه أوصى رجلا بثلاث فقال أكثر من ذكر الموت يشغلك عما سواه وعليك بالدعاء

ص -142- فإنك لا تدرى متى يستجاب لك وعليك بالشكر فإن الشكر زيادة
ويذكر عنه أنه كان إذا أكل قال: "الحمد لله الذى أطعمنى وسقانى وهدانى وكل بلاء حسن أبلانى الحمد لله الرازق ذى القوة المتين اللهم لا تنزع منا صالحا أعطيتنا ولا صالحا رزقتنا واجعلنا لك من الشاكرين"
ويذكر عنه أنه إذا أكل قال: "الحمد لله الذى أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا" وكان عروة بن الزبير إذا أتى بطعام لم يزل مخمرا حتى يقول هذه الكلمات: "الحمد لله الذى هدانا وأطعمنا وسقانا ونعمنا الله أكبر اللهم ألفتنا نعمتك ونحن بكل شر فأصبحنا وأمسينا بخير نسألك تمامها وشكرها لا خير إلا خيرك ولا إله غيرك اله الصالحين ورب العالمين الحمد لله لا اله الا الله ما شاء الله لا قوة الا بالله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار".
وقال وهب بن منبه رءوس النعم ثلاثة فأولها نعمة الاسلام التى لا تتم نعمه الا بها والثانية نعمة العافية التى لا تطيب الحياة الا بها والثالثة نعمة الغنى التى لا يتم العيش الا به
وقدم سعيد الجريرى من الحج فجعل يقول: "أنعم الله علينا في سفرنا بكذا وكذا ثم قال تعداد النعم من الشكر" ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح وهو يقول "الحمد لله على نعمه فقال رجل كان مع وهب أى شئ بقى عليك من النعمة تحمد الله عليها فقال له المبتلى ارم ببصرك إلى أهل المدينة فانظر إلى كثرة أهلها أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيرى".
ويذكر عن النبي أنه قال: "اذا أنعم الله على عبد نعمة فحمده عندها فقد أدى شكرها" وذكر على بن أبى طالب رضى الله عنه أن بختنصر أتى بدانيال فأمر به فحبس في جب وأضرى أسدين ثم خلى بينهما

ص -143- وبينه ثم فتح عليه بعد خمسة أيام فوجده قائما يصلى والأسدان في ناحية الجب لم يعرضا له فقال له ما قلت حين دفع عليك قال قلت الحمد لله الذى لا ينسى من ذكره والحمد الله الذى لا يخيب من رجاه والحمد لله الذى لا يكل من توكل عليه إلى غيره والحمد لله الذى هو ثقتنا حين تنقطع عنا الحيل والحمد لله الذى هو رجاؤنا حين يسوء ظننا بأعمالنا والحمد لله الذى يكشف عنا ضرنا بعد كربتنا والحمد لله الذى يجزى بالاحسان احسانا والحمد لله الذى يجزى بالصبر نجاة
ويذكر عنه انه كان اذا نظر في المرآة قال: "الحمد لله الذى أحسن خلقى وخلقى وزان منى ما شان من غيرى"
وقال ابن سيرين: "كان ابن عمر يكثر النظر في المرآة وتكون معه في الاسفار فقلت له ولم قال أنظر فما كان في وجهى زين فهو في وجه غيرى شين أحمد الله عليه" وسئل أبو بكر بن أبى مريم ما تمام النعمة قال أن تضع رجلا على الصراط ورجلا في الجنة وقال بكر بن عبد الله يا ابن آدم ان أردت أن تعرف قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك
وقال مقاتل في قوله واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } قال أما الظاهرة فالاسلام وأما الباطنة فستره عليكم بالمعاصى
وقال ابن شوذب قال عبدالله يعنى ابن مسعود رضى الله عنه ان لله على أهل النار منة لو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم
وقال أبو سليمان الدارانى جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيه خصالا الكرم والسخاء والحلم والرأفة والرحمة والشكر والبر والصبر وقال أبو هريرة رضى الله عنه من رأى صاحب بلاء فقال الحمد لله الذى عافانى مما ابتلاك به وفضلنى عليك وعلى جميع خلقه تفضيلا فقد أدى شكر تلك النعمة وقال عبد الله بن وهب سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول الشكر يأخذ بجذم الحمد وأصله وفرعه قال ينظر في نعم الله في بدنه

ص -144- وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك ليس من هذا شئ الا فيه نعمه من الله حق على العبد أن يعمل في النعمة التى هى في بدنه لله في طاعته ونعمة أخرى في الرزق وحق عليه أن يعمل لله فيما أنعم عليه به من الرزق بطاعته فمن عمل بهذا كان قد أخذ يجذم الشكر وأصله وفرعه
وقال كعب: "ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله الا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الاخرى وما أنعم الله على عبد نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها الا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقات من النار يعذبه ان شاء أو يتجاوز عنه".
وقال الحسن من لا يرى لله عليه نعمة الا في مطعم أو مشرب أو لباس فقد قصر علمه وحضر عذابه وقال الحسن يوما لبكر المزنى هات يا أبا عبد الله دعوات لإخوانك فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال والله ما أدرى أى النعمتين أفضل على وعليكم أنعمة المسلك أم نعمة المخرج اذا أخرجه منا قال الحسن انها لمن نعمة الطعام
وقالت عائشة رضى الله عنها ما من عبد يشرب الماء القراح فيدخل بغير أذى ويخرج الاذى الا وجب عليه الشكر قال الحسن يالها من نعمة تدخل كل لذة وتخرج مسرخا لقد كان ملك من ملوك هذه القرية يرى الغلام من غلمانه يأتى الحب فيكتال منه ثم يجرجر قائما فيقول يا ليتنى مثلك ما يشرب حتى يقطع عنه العطش فإذا شرب كان له في تلك الشربة موتات يا لها من نعمة
وكتب بعض العلماء إلى أخ له أما بعد فقد أصبح بنا من نعم الله مالا نحصيه مع كثرة ما نعصيه فما يدرى أيهما نشكر أجميل ما يسر أم قبيح ما ستر وقيل للحسن ها هنا رجل لا يجالس الناس فجاء اليه فسأله عن ذلك فقال انى أمسى وأصبح بين ذنب ونعمة فرأيت أن أشغل نفسى عن الناس بالاستغفار من الذنب والشكر لله على النعمة فقال له الحسن أنت

ص -145- عندى يا عبد الله أفقه من الحسن فالزم ما أنت عليه وقال ابن المبارك سمعت عليا بن صالح يقول في قوله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} قال أى من طاعتى والتحقيق أن الزيادة من النعم وطاعته من أجل نعمه وذكر أبن أبى الدنيا أن محارب بن دثار كان يقوم بالليل ويرفع صوته أحيانا أنا الصغير الذى ربيته فلك الحمد وأنا الضعيف الذى قويته فلك الحمد وأنا الفقير الذى أغنيته فلك الحمد وأنا الصعلوك الذى مولته فلك الحمد وأنا العزب الذى زوجته فلك الحمد وأنا الساغب الذى أشبعته فلك الحمد وأنا العارى الذى كسوته فلك الحمد وأنا المسافر الذى صاحبته فلك الحمد وأنا الغائب الذى رددته فلك الحمد وأنا الراجل الذى حملته فلك الحمد وأنا المريض الذى شفيته فلك الحمد وأنا السائل الذى أعطيته فلك الحمد وأنا الداعى الذى أجبته فلك الحمد ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا
وكان بعض الخطباء يقول في خطبته اختط لك الأنف فأقامه وأتمه فأحسن تمامه ثم أدار منك الحدقة فجعلها بجفون مطبقه وبأشفار معلقه ونقلك من طبقة إلى طبقه وحنن عليك قلب الوالدين برقة ومقة فنعمه عليك مورقة وأياديه بك محدقة
وكان بعض العلماء يقول في قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} سبحان من لم يجعل لحد معرفة نعمه الا العلم بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل لحد ادراكه أكثر من العلم أنه لا يدرك فجعل معرفة نعمه بالتقصير عن معرفتها شكرا كما شكر علم العالمين انهم لا يدركونه فجعله ايمانا علما منه أن العباد لا يتجاوزون ذلك
وقال عبد الله بن المبارك أخبرنا مثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله يقول خصلتان من كانتا فيه كتبه الله صابرا شاكرا ومن لم يكونا فيه لم يكتبه الله صابرا شاكرا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ومن نظر في دنياه إلى من هو دونه

ص -146- فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله صابرا شاكرا ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله صابرا شاكرا وبهذا الإسناد عن عبد الله ابن عمرو موقوفا عليه أربع خصال من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة من كان عصمة أمره لا اله الا الله واذا أصابته مصيبه قال انا لله وانا اليه راجعون واذا أعطى شيئا قال الحمد لله واذا أذنب قال استغفر الله
وقال ابن المبارك عن شبل عن أبى نجيح عن مجاهد في قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} قال لم يأكل شيئا إلا حمد الله عليه ولم يشرب شرابا قط الا حمد الله عليه ولم يبطش بشيء قط الا حمد الله عليه فأثنى الله عليه انه كان عبدا شكورا وقال محمد بن كعب كان نوح إذا أكل قال الحمد لله وإذا شرب قال الحمد لله وإذا لبس قال الحمد لله وإذا ركب قال الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا وقال ابن أبى الدنيا بلغنى عن بعض الحكماء قال لو لم يعذب الله على معصيته لكان ينبغى أن لا يعصى لشكر نعمته
فصل: "ولله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما أحدهما أمره ونهيه اللذين هما محض حقه عليه والثانى شكر نعمه التى أنعم بها عليه فهو سبحانه يطالبه بشكر نعمه وبالقيام بأمره فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره وتفريطه وأنه محتاج الى عفو الله ومغفرته فإن لم يداركه بذلك هلك وكلما كان أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم وشهوده لتقصيره أعظم وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله واكثر الديانين لا يعبأون منها الا بما شاركهم فيه عموم الناس
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والنصيحه لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلا عن أن يريدوا فعلها وفضلا عن أن يفعلوها وأقل الناس دينا

ص -147- وأمقتهم الى الله من ترك هذه الواجبات وان زهد فى الدنيا جميعها وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته ويبذل عرضه فى نصرة دينه وأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله تعالى أمر ملكا من الملائكة أن يخسف بقريه فقال يا رب ان فيهم فلانا العابد الزاهد قال به فابدأ وأسمعنى صوته انه لم يتمعر وجهه فى يوم قط
فصل: وأما شهود النعمه فإنه لا يدع له رؤية حسنة من حسناته أصلا ولو عمل أعمال الثقلين فإن نعم الله سبحانه أكثر من أعماله وأدنى نعمه من نعمه تستنفذ عمله فينبغى للعبد ألا يزال ينظر فى حق الله عليه
قال الامام أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال بلغنى أن نبى الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال يا رب ارحمه فإنى قد رحمته فأوحى الله اليه لو دعانى حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر فى حقى عليه
فمشاهدة العبد النعمه والواجب لا تدع له حسنة يراها ولا يزال مزريا على نفسه ذاما لها وما اقربه من الرحمه اذا أعطى هذين المشهدين حقهما والله المستعان

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الحادي والعشرون في الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين

الباب الحادى والعشرون: فى الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين
فنقول كل أمرين طلبت الموازنة بينهما ومعرفة الراجح منهما على المرجوح فإن ذلك لا يمكن إلا بعد معرفة كل منهما وقد ذكرنا حقيقة الصبر وأقسامه وأنواعه ونذكر حقيقة الشكر وماهيته
قال فى الصحاح الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف

ص -148- يقال شكرته وشكرت له واللام أفصح وقوله تعالى {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} يحتمل أن يكون مصدرا كالقعود وأن يكون جميعا كالبرود والكفور والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل واشتكرت السماء اشتد وقع مطرها واشتكر الضرع امتلأ لبنا تقول منه شكرت الناقة بالكسر تشكر شكرا فهى شكرة وشكرت الشجرة تشكر شكرا إذا خرج منها الشكير وهو ما ينبت حول الشجرة من أصلها

فتأمل هذا الاشتقاق وطابق بينه وبين الشكر المأمور به وبين الشكر الذى هو جزاء الرب الشكور كيف نجد فى الجميع معنى الزيادة والنماء ويقال أيضا دابة شكور اذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف
وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان لا يكون شكورا الا بمجموعها أحدها اعترافه بنعمة الله عليه والثانى الثناء عليه بها والثالث الاستعانة بها على مرضاته
وأما قول الناس فى الشكر فقالت طائفة هو الاعتراف بنعمه المنعم على وجه الخضوع وقيل الشكر هو الثناء على المحسن بذكر احسانه اليه فشكر العبد ثناؤه عليه بذكر احسانه اليه وقيل شكر النعمة مشاهدة المنة وحفظ الحرمة والقيام بالحدمة وقيل شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا وقيل الشكر معرفه العجز عن الشكر ويقال الشكر على الشكر أتم من الشكر وذلك أن ترى شكرك بتوفيقه وذلك التوفيق من أجل النعم عليك تشكر على الشكر ثم تشكره على الشكر الا ترى نفسك للنعمه

أهلا وقيل الشكر استفراغ الطاقه فى الطاعه وقيل الشاكر الذى يشكر على الموجود والشكور الذى يشكر على المفقود وقيل الشاكر الذى يشكر على الرفد والشكور الذى يشكر على الرد وقيل الشاكر الذى

ص -149- يشكر على النفع والشكور الذى يشكر على المنع وقيل الشاكر الذى يشكر على العطاء والشكور الذى يشكر على البلاء

وقال الجنيد كنت بين يدى السرى ألعب وأنا ابن سبع سنين وبيننا جماعة يتكلمون فى الشكر فقال لى ياغلام ما الشكر فقلت ألا تعصى الله بنعمه فقال يوشك أن يكون حظك من الله لسانك فلا أزال أبكى على هذه الكلمة التى قالها السرى وقال الشبلى الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعم وهذا ليس بجيد بل من تمام الشكر أن تشهد النعمة من المنعم وقيل الشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقال أبو عثمان شكر العامة على المطعم والملبس وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعانى
وحبس السلطان رجلا فأرسل اليه صاحبه أشكر الله فضرب فارسل اليه أشكر الله فجيء بمحبوس مجوسى مبطون فقيد وجعل حلقة من قيده فى رجله وحلقة فى الرجل المذكور فكان المجوسى يقوم بالليل مرات فيحتاج الرجل أن يقف على راسه حتى يفرغ فكتب اليه صاحبه أشكر الله فقال له الى متى تقول أشكر الله وأى بلاء فوق هذا فقال ولو وضع الزنار الذى فى وسطه فى وسطك كما وضع القيد الذى فى رجله فى رجلك ماذا كنت تصنع فاشكر الله ودخل رجل على سهل ابن عبدالله فقال اللص دخل داري وأخذ متاعى فقال أشكر الله فلو دخل اللص قلبك وهو الشيطان وافسد عليك التوحيد ماذا كنت تصنع؟.
وقيل الشكر التلذذ بثنائه على ما لم يستوجبه من عطائه وقيل اذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر وقيل اربعة لا ثمرة لهم مشاورة الاصم ووضع النعمة عند من لا يشكرها والبذر فى السباح والسراج فى الشمس
والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح فالقلب للمعرفة والمحبة

ص -150- واللسان للثناء والحمد والجوارح لاستعمالها فى طاعة المشكور وكفها عن معاصيه وقال الشاعر
أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى ولسانى والضمير المحجبا
والشكر أخص بالافعال والحمد أخص بالاقوال وسبب الحمد أعم من سبب الشكر ومتعلق الشكر وما به الشكر أعم مما به الحمد فما يحمد الرب تعالى عليه أعم مما يشكر عليه فانه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه ويشكر على نعمه وما يحمد به أخص مما يشكر به فانه يشكر بالقلب واللسان والجوارح ويحمد بالقلب واللسان
فصل: اذا عرف هذا فكل من الصبر والشكر داخل فى حقيقة الآخر لا يمكن وجوده الا به وانما يعبر عن أحدهما باسمه الخاص به باعتبار الاغلب عليه والاظهر منه والا فحقيقة الشكر انما يلتئم من الصبر والارادة والفعل فان الشكر هو العمل بطاعة الله وترك معصيته والصبر أصل ذلك فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر واذا كان الصبر مأمورا به فأداؤه هو الشكر
فان قيل فهذا يفهم منه اتحاد الصبر والشكر وانهما اسمان لمسمى واحد وهذا محال عقلا ولغة وعرفا وقد فرق الله سبحانه بينهما
قيل بل هما معنيان متغايران وانما بينا تلازمهما وافتقار كل واحد منهما فى وجود ماهيته الى الآخر ومتى تجرد الشكر عن الصبر بطل كونه شكرا واذا تجرد الشكر عن الصبر بطل كونه صبرا أما الاول فظاهر وأما الثانى اذا تجرد عن الشكر كان كافورا ومنافاة الكفور للصبر أعظم من منافاة السخوط
فان قيل بل ها هنا قسم آخر وهو أن لا يكون كفورا ولا شكورا بل صابرا على مضض وكراهة شديدة فلم يأت بحقيقة الشكر ولم يخرج عن ماهية الصبر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.