السبت، 28 مايو 2011

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية( جزء 4)


ص -151- قيل: كلامنا فى الصبر المأمور به الذى هو طاعة لا فى الصبر الذى هو تجلد كصبر البهائم وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر ولكن اندرج شكره في صبره فكان الحكم للصبر كما اندرج صبر الشكور فى شكره فكان الحكم للشكر فمقامات الايمان لا تعدم بالتنقل فيها بل تندرج وينطوى الادنى فى الاعلى كما يندرج الايمان فى الاحسان وكما يندرج الصبر فى مقامات الرضا لا أن الصبر يزول ويندرج الرضا فى التفويض ويندرج الخوف والرجاء فى الحب لا أنهما يزولان فالمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر سواء كان محبوبا أو مكروها فالفقر مثلا يتعلق به الصبر وهو أخص به لما فيه من الكراهة ويتعلق به الشكر لما فيه من النعمة فمن غلب شهود نعمته وتلذذ به واستراح واطمأن اليه عده نعمة يشكر عليها ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق والحاجة عده بلية يصبر عليها وعكسه الغنى
على أن الله سبحانه ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب وعد ذلك كله ابتلاء فقال {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} وقال إنا جعلنا ما على الارض زينا لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقال {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال وهو الذى خلق السموات والارض فى ستة ايام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فاخبر سبحانه أنه خلق العالم العلوى والسفلى وقدر أجل الخلق وخلق ما على الارض للابتلاء والاختبار وهذا الابتلاء انما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم فى الخير والشر والسراء والضراء فالابتلاء من النعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة وتأتى الاسباب أعظم الابتلائين والصبر على طاعة الله أشق الصبرين كما قال الصحابة

رضى الله عنهم ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر والنعمة بالفقر والمرض وقبض الدنيا وأسبابها وأذى الخلق قد يكون

ص -152- أعظم النعمتين وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها فالرب تعالى يبتلى بنعمه وينعم بابتلائه غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد فى أمر الرب ونهيه وقضائه وقدره لا يستغنى عنهما طرفة عين والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الحس والحركة أيهما أفضل وعن الطعام والشراب أيهما أفضل وعن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل فالمأمور لا يؤدى الا بصبر وشكر والمحظور لا يترك الا بصبر وشكر وأما المقدور الذى يقدر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره فى صبره كما يندرج صبر الشاكر فى شكره

ومما يوضح هذا أن الله سبحانه امتحن العبد بنفسه وهواه وأوجب عليه جهادهما فى الله فهو فى كل وقت فى مجاهدة نفسه حتى تأتى بالشكر المأمور به ويصبر عن الهوى المنهى عن طاعته فلا ينفك العبد عنهما غنيا كان أو فقيرا معافى أو مبتلى وهذه هى مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وللناس فيها ثلاثة أقوال وهى التى حكاها أبو الفرج ابن الجوزى وغيره فى عموم الصبر والشكر أيهما أفضل وقد احتجت كل فرقة بحجج وأدلة على قولها
والتحقيق أن يقال أفضلهما أتقاهما لله تعالى فان فرض استوائهما فى التقوى استويا فى الفضل فان الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافيه والبلاء وانما فضل بالتقوى كما قال تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقد قال لا فضل لعربى على عجمى ولا فضل لعجمى على عربى الا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب والتقوى مبنيه على أصلين الصبر والشكر وكل من الغنى والفقير لا بد له منهما فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل
فان قيل فاذا كان صبر الفقير أتم وشكر الغنى أتم فأيهما أفضل؟.
قيل أتقاهما لله فى وظيفته ومقتضى حاله ولا يصح التفضيل بغير

ص -153- هذا البته فان الغنى قد يكون أتقى لله فى شكره من الفقير فى صبره وقد يكون الفقير أتقى لله فى صبره من الغنى فى شكره فلا يصح أن يقال هذا بغناه أفضل ولا هذا بفقره أفضل ولا يصح أن يقال هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر ولا بالعكس لأنهما مطيتان للايمان لا بد منهما بل الواجب أن يقال أقومهما بالواجب والمندوب هو الافضل فان التفضيل تابع لهذين الأمرين كما قال تعالى فى الاثر الالهى: "ما تقرب الى عبدى بمثل مداومة ما افترضت عليه ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه" فأى الرجلين كان أقوم بالواجبات وأكثر نوافل كان أفضل
فان قيل: فقد ثبت عن النبى أنه قال" يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة عام" قيل هذا لا يدل على فضلهم على الاغنياء فى الدرجة وعلو المنزلة وان سبقوهم بالدخول فقد يتأخر الغنى والسلطان العادل فى الدخول لحسابه فاذا دخل كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كسبق الفقير القفل فى المضائق وغيرها ويتأخر صاحب الاحمال بعده فان قيل فقد قال النبى للفقراء لما شكوا اليه زيادة عمل الاغنياء عليهم بالعتق والصدقه: "ألا أدلكم على شئ اذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم" فدلهم على التسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة فلما سمع الاغنياء ذلك عملوا به فذكروا ذلك للنبى فقال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وهذا يدل على ترجيح حال الغنى الشاكر قيل هذا حجة للقول الذى نصرناه وهو أن أفضلهما أكثرهما نوافل فإن استويا استويا وها هنا قد ساوى الأغنياء الفقراء فى أعمالهم المفروضه والنافلة وزادوا عليهم بنوافل العتق والصدقه وفضلوهم بذلك فساووهم فى صبرهم على الجهاد والأذى فى الله والصبر على المقدور وزادوا عليهم بالشكر بنوافل المال فلو كان للفقراء بصبرهم نوافل تزيد على نوافل الأغنياء لفضلوهم بها
فإن قيل: إن النبى عرضت عليه مفاتيح كنوز الدنيا فردها

ص -154- وقال: "بل اشبع يوما وأجوع يوما" وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنهما قالت: "خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز البر ومات ودرعه مرهونه عند يهودى على طعام أخذه لأهله".
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا الاعمش عن عبادة بن القعقاع عن ابى زرعه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وقال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن محمد حدثنا عباد بن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبى عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت دخلت على امرأة من الانصار فرأت فراش النبى عباءة مثنيه فرجعت الى منزلها فبعثت الى بفراش حشوه الصوف فدخل على رسول الله فقال: "ما هذا؟ فقلت فلانه الانصاريه دخلت على فرأت فراشك فبعثت إلى بهذا فقال رديه فلم أرده وأعجبنى أن يكون فى بيتى حتى قال لى ذلك ثلاث مرات فقال ياعائشة رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضه فرددته" ولم يكن الله سبحانه ليختار لرسوله الا الافضل هذا مع أنه لو أخذ الدنيا لأنفقها كلها فى مرضاة الله ولكان شكره بها فوق شكر جميع العالمين
قيل احتج بحال رسول الله كل واحدة من الطائفتين والتحقيق أن الله سبحانه وتعالى جمع له بين المقامين كليهما على أتم الوجوه وكان سيد الاغنياء الشاكرين وسيد الفقراء الصابرين فحصل له من الصبر على الفقراء ما لم يحصل لأحد سواه ومن الشكر على الغنى ما لم يحصل لغنى سواه ومن تأمل سيرته وجد الأمر كذلك فكان أصبر الخلق فى مواطن الصبر وأشكر الخلق فى مواطن الشكر وربه تعالى كمل له مراتب الكمال فجعله فى أعلى رتب الأغنياء الشاكرين وفى أعلى مراتب الفقراء الصابرين قال

ص -155- تعالى {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} وأجمع المفسرون أن العائل هو الفقير يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر وأعال يعيل إذا صار ذا عيال مثل لبن وأثمر وأثرى إذا صار ذا لبن وثمر وثروة وعال يعول إذا جار ومنه قوله تعالى ذلك أدنى أن لا تعولوا وقيل المعنى ألا تكثر عيالكم والقول هو الأول لوجوه
أحدها: أنه لا يعرف فى اللغة عال يعول إذا كثر عياله وانما المعروف فى ذلك عال يعيل وأما عال يعول فهو بمعنى الجور ليس إلا هذا الذى ذكره أهل اللغة قاطبة
الثانى: أنه سبحانه قابل ذلك بالعدل الذى نقلهم عند خوفهم من فقده الى الواحدة والتسرى بما شاءوا من ملك أيمانهم ولا يحسن هنا التعليل بعدم العيال
يوضحه الوجه الثالث أنه سبحانه نقلهم عند الخوف من عدم القسط فى نكاح اليتامى إلى من سواهن من النساء لئلا يقعوا فى ظلم أزواجهم اليتامى وجوز لهم نكاح الواحدة وما فوقها إلى الأربع ثم نقلهم عند خوف الجور وعدم العدل فى القسمة إلى الواحدة أو النوع الذى لا قسمة عليهم فى الاستمتاع بهنوهن الإماء فانتظمت الآية ببيان الجائز من نكاح اليتامى والبوالغ والأولى من ذينك القسمين عند خوف العدل فما لكثرة العيال مدخل ها هنا البتة
يوضحه الوجه الرابع: انه لو كان المحذور كثرة العيال لما نقلهم الى ما شاءوا من كثرة الاماء بلا عدد فإن العيال كما يكونون من الزوجات يكونون من الإماء ولا فرق فإنه لم ينقلهم الى اماء الاستخدام بل الى إماء الاستفراش
يوضحه الوجه الخامس: أن كثرة العيال ليس أمرا محذورا مكروها للرب تعالى كيف وخير هذه الأمة أكثرها نساء وقد قال النبى:

ص -156- "تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الامم" فأمر بنكاح الولود ليحصل منها ما يكاثر به الامم يوم القيامة
والمقصود أنه سبحانه جعل نبيه غنيا شاكرا بعد أن كان فقيرا صابرا فلا تحتج به طائفة لحالها إلا كان للطائفة الأخرى أن تحتج به ايضا لحالها فإن قيل فقد كان عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه من الشاكرين وقد قال الامام أحمد فى مسنده حدثنا عبد الصمد حدثنا عمارة عن ثابت عن أنس رضى الله عنه قال بينما عائشة فى بيتها سمعت صوتا فى المدينة فقالت ما هذا فقالوا عير لعبد الرحمن قدمت من الشام تحمل من كل شئ قال وقد كانت سبعمائة بعير فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة سمعت رسول الله يقول: "رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا" فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال إن استطعت لأدخلنها قائما فجعلها بأحمالها وأقتابها كلها فى سبيل الله
قيل قد قال الامام أحمد هذا الحديث كذب منكر قالوا او عمارة يروى أحاديث مناكير وقال أبو حاتم الرازى عمارة بن زاذان لا يحتج به
قال أبو الفرج وقد روى الجراح بن منهال باسناده عن عبد الرحمن بن عوف أن النبى قال له: "يا ابن عوف إنك من الأغنياء وإنك لا تدخل الجنة إلا زحفا فأقرض ربك يطلق قدميك" قال أبو عبد الرحمن النسائى هذا حديث موضوع والجراح متروك الحديث وقال يحيى ليس حديث الجراح بشئ وقال ابن المدينى لا يكتب حديثه وقال ابن حبان كان يكذب وقال الدارقطنى متروك
فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذى رواه البيهقى من حديث أحمد بن على بن اسماعيل بن محمد حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أخبرنى خالد بن يزيد بن أبى مالك عن أبيه عن عطاء بن أبى رباح عن

ص -157- إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن رسول الله أنه قال: "يا ابن عوف إنك من الاغنياء ولن تدخل الجنة إلا زحفا فأقرض الله يطلق قدميك" قال وما الذى أقرض يا رسول الله قال تتبرأ مما أمسيت فيه قال أمن كله أجمع يا رسول الله قال نعم فخرج وهو يهتم بذلك فأتاه جبريل فقال مر ابن عوف فليضف الضيف وليطعم المساكين وليبدأ بمن يعول وليعط السائل فاذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه".
قيل هذا حديث باطل لا يصح عن رسول الله فان أحد رواته خالد بن يزيد بن أبى مالك قال الامام أحمد ليس بشيء وقال ابن معين واه وقال النسائى غير ثقة وقال الدارقطنى ضعيف وقال يحيى بن معين لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة
فان قيل فما تصنعون بالحديث الذى قاله الامام أحمد حدثنا الهذيل بن ميمون عن مطرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة قال قال رسول الله: "دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدى قلت ما هذا قال بلال فمضيت فاذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذرارى المسلمين ولم ار فيها أحدا أقل من الاغنياء والنساء قيل لى أما الاغنياء فهم فى الباب يحاسبون ويمحصون وأما النساء فألهاهن الاحمران الذهب والحرير ثم خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها ووضعت أمتى فى كفة فرجحت بها ثم أتى بأبى بكر فوضع فى كفة وجئ بجميع أمتى فوضعوا فى كفة فرجح أبو بكر ثم اتى بعمر فوضع فى كفة ووضع أمتى فى كفة فرجح عمر وعرضت على أمتى رجلا رجلا فجعلوا يمرون واستبطأت عبد الرحمن ابن عوف ثم جاء بعد الاياس فقلت عبد الرحمن فقال بأبى وأمى يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى ظننت إنى لا أصل إليك الا بعد المشيبات قلت وما ذاك قال من كثرة مالى أحاسب فأمحص".

ص -158- قيل هذا حديث لا يحتج باسناده وقد أدخله أبو الفرج هو والذى قبله فى كتاب الموضوعات وقال أما عبيد بن زحر فقال يحيى ليس بشئ وعلى بن يزيد متروك وقال ابن حبان عبيد الله يروى الموضوعات عن الاثبات واذا روى عن على بن يزيد أتى بالطامات واذا اجتمع فى اسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلى بن يزيد والقاسم ابن عبد الرحمن لم يكن متن ذلك الخبر الا مما عملته أيديهم
قال أبو الفرج وبمثل هذا الحديث الباطل يتعلق جملة المتزهدين ويرون ان المال مانع من السبق الى الخير ويقولون اذا كان ابن عوف يدخل الجنة زحفا لأجل ماله كفى ذلك فى ذم المال والحديث لا يصح وحاشا عبد الرحمن المشهود له بالجنة أن يمنعه ماله من السبق لان جمع المال مباح وانما المذموم كسبه من غير وجهه ومنع الحق الواجب فيه وعبد الرحمن منزه عن الحالين وقد خلف طلحة ثلاثمائة حمل من الذهب وخلف الزبير وغيره ولو علموا أن ذلك مذموم لأخرجوا الكل وكم قاص يتسوف بمثل هذا الحديث يحث على الفقر ويذم الغنى فلله در العلماء الذين يعرفون الصحيح ويفهمون الأصول ا هـ
قلت وقد بالغ فى رد هذا الحديث وتجاوز الحد فى إدخاله فى الأحاديث الموضوعة المختلقة على رسول الله وكأنه استعظم احتباس عبد الرحمن بن عوف وهو أحد السابقين الأولين المشهود لهم عن السبق اليها ودخول الجنة حبوا ورأى ذلك مناقضا لسبقه ومنزلته التى أعدها الله له فى الجنة وهذا وهم منه رحمه الله
وهب أنه وجد السبيل الى الطعن فى هذين الخبرين أفيجد سبيلا الى القدح فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" قال الترمذى حديث حسن صحيح وفى حديث ابن عمر الذى رواه مسلم فى

ص -159- صحيحه عن النبى: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الاغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا"
وفى مسند الامام أحمد عنه عن النبى: "هل تدرون أول من يدخل الجنة قالوا الله ورسوله أعلم قال فقراء المهاجرين الذين يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء".
وفى جامع الترمذى من حديث جابر رضى الله عنه عن النبى أنه قال: "يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الاغنياء بأربعين خريفا" فهذا الحديث وأمثاله صحيح صريح فى سبق فقراء الصحابة الى الجنة لأغنيائهم وهم فى السبق متفاوتون فمنهم من يسبق خمسمائة عام ومنهم من يسبق بأربعين عاما ولا يقدح ذلك فى منزلة المتأخرين فى الدخول فإنهم قد يكونون أرفع منزلة ممن سبقهم الى الدخول وان تأخروا بعدهم للحساب فان الامام العادل يوقف للحساب ويسبقه من لم يل شيئا من أمور المسلمين الى الجنة فاذا دخل الامام العادل بعده كانت منزلته أعلى من منزلة الفقير بل يكون أقرب الناس من الله منزلة كما فى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه عن النبى قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا" وفى الترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى: "أن أحب الناس الى الله يوم القيامة واقربهم منه مجلسا امام عادل وأبغض الناس الى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا امام جائر"
فالامام العادل والغنى قد يتأخر دخول كل منهم للحساب ويكون بعد الدخول ارفع منزلة من الفقير السابق ولا يلزم من احتباس عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله حتى يحاسبه عليه ثم يلحق برسول الله وأصحابه غضاضة عليه ولا نقص من مرتبته ولا يضاد ذلك سبقه وكونه مشهودا له بالجنة وأما حديث دخوله الجنة زحفا فالامر كما قال فيه الامام أحمد رحمه الله انه كذب منكر وكما قال النسائى انه موضوع ومقامات عبد

ص -160- الرحمن وجهاده ونفقاته العظيمة وصدقاته تقتضى دخوله مع المارين كالبرق أو كالطرف أو كأجاويد الخيل ولا يدعه يدخلها زحفا
فصل: والله سبحانه كما هو خالق الخلق فهو خالق ما به غناهم وفقرهم فخلق الغنى والفقر ليبتلى بهما عباده أيهم أحسن عملا وجعلهما سببا للطاعة والمعصية والثواب والعقاب قال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
قال ابن عباس رضى الله عنهما بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام وكلها بلاء
وقال ابن يزيد نبلوكم بما تحبون وما تكرهون لننظر كيف صبركم وشكركم فبما تحبون وما تكرهون وقال الكلبى بالشر بالفقر والبلاء والخير بالمال والولد فأخبر سبحانه أن الغنى والفقر مطيتا الابتلاء والامتحان وقال تعالى {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} فأخبر سبحانه أنه يبتلى عبده بإكرامه له وبتنعيمه له وبسط الرزق عليه كما يبتليه بتضييق الرزق وتقديره عليه وان كليهما ابتلاء منه وامتحان ثم أنكر سبحانه على من زعم أن بسط الرزق وتوسعته اكرام من الله لعبده وان تضييقه عليه اهانة منه له فقال كلا أى ليس الامر كما يقول الانسان بل قد أبتلى بنعمتى وأنعم ببلائى
واذا تأملت ألفاظ الآية وجدت هذا المعنى يلوح على صفحاتها ظاهرا للمتأمل وقال تعالى وهو الذى جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فأخبر سبحانه أنه زين الارض بما عليها من المال وغيره للابتلاء والامتحان كما أخبر أنه خلق الموت والحياة لذلك وخلق السموات والارض لهذا الابتلاء أيضا

ص -161- فهذه ثلاثة مواضع فى القرآن يخبر فيها سبحانه أنه خلق العالم العلوى والسفلى وما بينهما وأجل العالم وأجل أهله وأسباب معائشهم التى جعلها زينة للأرض من الذهب والفضة والمساكن والملابس والمراكب والزروع والثمار والحيوان والنساء والبنين وغير ذلك كل ذلك خلقه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أطوع له وارضى فهو الاحسن عملا
وهذا هو الحق الذى خلق به وله السموات والارض وما بينهما وغايته الثواب والعقاب وفواته وتعطيله هو العبث الذى نزه نفسه عنه وأخبر أنه يتعالى عنه وأن ملكه الحق وتفرده بالالهية وحده وبربوبية كل شئ ينفى هذا الظن الباطل والحساب الكاذب كما قال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فنزه سبحانه نفسه عن ذلك كما نزهها عن الشريك والولد والصاحبة وسائر العيوب والنقائص من السنة والنوم واللغوب والحاجة واكتراثه بحفظ السموات والارض وتقدم الشفعاء بين يديه بدون اذنه كما يظنه أعداؤه المشركون يخرجون عن علمه جزئيات العالم أو شيئا منها فكما أن كماله المقدس وكمال أسمائه وصفاته يأبى ذلك ويمنع منه فكذلك يبطل خلقه لعباده عبثا وتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يردهم اليه فيثيب محسنهم بإحسانه ومسيئهم باساءته ويعرف المبطلون منهم انهم كانوا كاذبين ويشهدهم أن رسله وأتباعهم كانوا اولى بالصدق والحق منهم فمن أنكر ذلك فقد انكر إلهيته وربوبيته وملكه الحق وذلك عين الجحود والكفر به سبحانه كما قال المؤمن لصاحبه الذى حاوره فى المعاد وأنكره {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} فأخبر أن انكاره للمعاد كفر بذات الرب سبحانه وقال تعالى وان تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا إنا لفى خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم

وذلك أن انكار المعادى يتضمن انكار قدرة الرب وعلمه وحكمته وملكه الحق وربوبيته والهيته كما أن تكذيب رسله وجحد رسالتهم يتضمن ذلك ايضا فمن كذب رسله وجحد

ص -162- المعاد فقد أنكر ربوبيته سبحانه ونفى أن يكون رب العالمين

والمقصود أنه سبحانه وتعالى خلق الغنى والفقر مطيتين للابتلاء والامتحان ولم ينزل المال لمجرد الاستمتاع به كما فى المسند عنه قال: يقول الله تعالى: "انا نزلنا المال لاقام الصلاة وايتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد من مال لابتغى اليه ثانيا ولو كان له ثان لابتغى له ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب" فأخبر سبحانه انه أنزل المال ليستعان به على إقامة حقه بالصلاة واقامة حق عباده بالزكاة لا للاستمتاع والتلذذ كما تأكل الانعام فاذا زاد المال عن ذلك أو خرج عن هذين المقصودين فان الغرض والحكمة التى أنزل لها كان التراب أولى به فرجع هو والجوف الذى امتلأ به بما خلق له من الايمان والعلم والحكمة فانه خلق لان يكون وعاء لمعرفة ربه وخالقه والايمال به ومحبته وذكره وانزل عليه من المال ما يستعين به على ذلك فعطل الجاهل بالله وبأمر الله وبتوحيد الله وبأسمائه وصفاته جوفه عما خلق له وملأه بمحبة المال الفانى الذاهب الذى هو ذاهب عن صاحبه أو بالعكس وجمعه والاستكثار منه ومع ذلك فلم يمتلىء بل ازداد فقرا وحرصا الى أن امتلأ جوفه بالتراب الذى خلق منه فرجع الى مادته الترابية التى خلق منها هو وماله ولم تتكمل مادته بامتلاء جوفه من العلم والايمان الذى بهما كماله وفلاحه وسعادته فى معاشه ومعاده فالمال ان لم ينفع صاحبه ضره ولا بد وكذلك العلم والملك والقدرة كل ذلك ان لم ينفعه ضره فان هذه الامور وسائل لمقاصد يتوسل بها اليها فى الخير والشر فان عطلت عن التوسل بها الى المقاصد والغايات المحمودة توسل بها الى أضدادها
فأربح الناس من جعلها وسائل الى الله والدار الآخرة وذلك الذى ينفعه فى معاشه ومعاده وأخسر

الناس من توسل بها الى هواه ونيل شهواته وأغراضه العاجلة فخسر الدنيا والآخرة فهذا لم يجعل الوسائل مقاصد ولو جعلها كذلك لكان خاسرا لكنه جعلها وسائل الى ضد ما جعلت له فهو

ص -163- بمثابة من توسل بأسباب اللذة الى أعظم الآلام أدوائها

فالأقسام أربعة لا خامس لها أحدها معطل الاسباب معرض عنها الثانى مكب عليها واقف مع جمعها وتحصيلها الثالث متوصل بها الى ما يضره ولا ينفعه فى معاشه ومعاده فهؤلاء الثلاثة فى الخسران الرابع متوصل بها الى ما ينفعه فى معاشه ومعاده وهو الرابح قال تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
وقد أشكل فهم هذه الآية على كثير من الناس حيث فهموا منها أن من كان له ارادة فى الدنيا وزينتها فله هذا الوعيد ثم اختلفوا فى معناها فقالت طائفة منهم ابن عباس من كان يريد تعجيل الدنيا فلا يؤمن بالبعث ولا بالثواب ولا بالعقاب قالوا والآية فى الكفار خاصة على قول ابن عباس
وقال قتادة من كانت الدنيا همه وسدمه ونيته وطلبه جازاه الله فى الدنيا بحسناته ثم يفضى الى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها وأما المؤمن فيجزى فى الدنيا بحسناته ويثاب عليها فى الآخرة قال هؤلاء فالآية فى الكفار بدليل قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قالوا المؤمن من يريد الدنيا والآخرة فأما من كانت ارادته مقصورة على الدنيا فليس بمؤمن
وقال ابن عباس رضى الله عنهما فى رواية أبى صالح عنه نزلت فى أهل القبلة قال مجاهد هم اهل الرياء وقال الضحاك من عمل صالحا من أهل الايمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله فى الدنيا

واختار الفراء هذا القول وقال من أراد بعمله من أهل القبلة ثواب الدنيا عجل له ثوابه ولم يبخس وهذا القول ارجح ومعنى الآية على هذا من كان يريد بعمله

ص -164- الحياة الدنيا وزينتها وهذا لا يكون مؤمنا البتة فإن العاصى والفاسق ولو بالغا فى المعصية والفسق فإيما يحملهما على أن يعملا أعمال البر لله فيريدان بأعمال البر وجه الله وان عملا بمعصيته

فأما من لم يرد بعمله وجه الله وانما اراد به الدنيا وزينتها فهذا لا يدخل فى دائرة أهل الايمان وهذا هو الذى فهمه معاوية من الآية واستشهد بها على حديث أبى هريرة الذى رواه مسلم فى صحيحه فى الثلاثة الذين هم اول من تسعر بهم النار يوم القيامة القارئ الذى قرأ القرآن ليقال فلان قارئ والمتصدق الذى أنفق أمواله ليقال فلان جواد والغازى الذى قتل فى الجهاد ليقال هو جرئ
وكما أن خيار خلق الله هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون فشرار الخلق من تشبه بهم وليس منهم فمن تشبه بأهل الصدق والاخلاص وهو مراء كمن تشبه بالانبياء وهو كاذب
وقال ابن أبى الدنيا حدثنى محمد بن ادريس قال أخبرنى عبد الحميد بن صالح حدثنا قطن بن الحباب عن عبد الوارث عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "اذا كان يوم القيامة صارت أمتى ثلاث فرق فرقة يعبدون الله عز وجل للدنيا وفرقة يعبدون رياء وسمعة وفرقة يعبدونه لوجهه ولداره فيقول للذين كانوا يعبدونه للدنيا بعزتى وجلالى ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك ومكانك الدنيا فيقول انى لم أقبل من ذلك شيئا اذهبوا بهم الى النار ويقول للذين كانوا يعبدون رياء وسمعة بعزتى وجلالى ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك ومكانك رياء وسمعة فيقول انى لم أقبل من ذلك شيئا اذهبوا بهم الى النار ويقول للذين كانوا يعبدونه لوجهه وداره بعزتى وجلالى ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك وجهك ودارك فيقول صدقتم اذهبوا بهم الى الجنة" هذا

حديث غنى عن الاسناد والقرآن والسنة شاهدان بصدقه ويدل على

ص -165- صحة هذا القول فى الآية قوله تعالى {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} وذلك على أنها فى قوم لهم أعمال لم يريدوا بها وجه الله وانما أرادوا بها الدنيا ولها عملوا فوفاهم الله ثواب أعمالهم فيها من غير بخس وأفضوا الى الآخرة بغير عمل يستحقون عليه الثواب وهذا لا يقع ممن يؤمن بالآخرة الا كما يقع منه كبائر الاعمال وقوعا عارضا يتوب منه ويراجع التوحيد

وقال ابن الانبارى فعلى هذا القول المعنى فى قوم من أهل الاسلام يعملون العمل الحسن لتستقيم به دنياهم غير متفكرين فى الآخرة وما ينقلبون اليه فهؤلاء يجعل لهم جزاء حسناتهم فى الدنيا فإذا جاءت الاخرة كان جزاؤهم عليها النار اذا لم يريدوا بها وجه الله ولم يقصدوا التماس ثوابه وأجره
ثم أورد صاحب هذا القول على أنفسهم سؤالا قالوا فإن قيل الاية الثانية على هذا القول توجب تخليد المؤمن المريد بعمله الدنيا فى النار وأجابوا عنه بأن ظاهر الاية يدل على أن من راءى بعمله ولم يلتمس به ثواب الاخرة بل كانت نيته الدنيا فان الله يبطل ايمانه عند الموافاة فلا يوافى ربه بالايمان قالوا ويدل عليه قوله {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا يتناول أصل الايمان وفروعه
وأجابت فرقة أخرى بأن الاية لا تقتضى الخلود الابدى فى النار وانما تقتضى أن الذى يستحقونه فى الاخرة النار وأنهم ليس لهم عمل صالح يرجون به النجاة فإذا كان مع أحدهم عمود التوحيد فإنه يخرج به من النار مع من يخرج من أصحاب الكبائر الموحدين وهذا هو جواب ابن الانبارى وغيره
والآية بحمد الله لا اشكال فيها والله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وهو النار وأخبر بحبوط عمله وبطلانه فاذا أحبط ما ينجو به وبطل لم يبق معه ما ينجيه فان كان معه ايمان لم يرد به الدنيا وزينتها بل أراد الله به والدار

الاخرة لم يدخل هذا الايمان فى العمل الذى حبط وبطل وأنجاه ايمانه من الخلود فى النار وان دخلها بحبوط

ص -166- عمله الذى به النجاة المطلقة والايمان ايمانان ايمان يمنع من دخول النار وهو الايمان الباعث على أن تكون الاعمال لله يبتغى بها وجهه وثوابه وايمان يمنع الخلود فى النار وان كان مع المرائى شئ منه والا كان من أهل الخلود فالاية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد والله الموفق وذلك قوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} ومنه قوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً}

فهذه ثلاث مواضع من القرآن يشبه بعضها بعضا ويصدق بعضها بعضا وتجتمع على معنى واحد وهو أن من كانت الدنيا مراده ولها يعمل فى غاية سعيه لم يكن له فى الاخرة نصيب ومن كانت الاخرة مراده ولها عمل وهى غاية سعيه فهى له
بقى أن يقال: فما حكم من يريد الدنيا والاخرة فانه داخل تحت حكم الارادتين فبأيهما يلحق قيل من ها هنا نشأ الاشكال وظن من ظن من المفسرين أن الاية فى حق الكافر فانه هو الذى يريد الدنيا دون الاخرة وهذا غير لازم طردا ولا عكسا فان بعض الكفار قد يريد الاخرة وبعض المسلمين قد لا يكون مراده الا الدنيا والله تعالى قد علق السعادة بإرادة الاخرة والشقاوة بإرادة الدنيا فاذا تجردت الارادتان تجرد موجبهما ومقتضاهما وان اجتمعتا فحكم اجتماعهما حكم اجتماع البر والفجور والطاعة والمعصية والايمان والشرك فى العبد وقد قال تعالى لخير الخلق بعد الرسل {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَة} وهذا خطاب للذين شهدوا معه الوقعة ولم يكن فيهم منافق ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه

ما شعرت أن أحد أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ونزلت هذه الاية

ص -167- والذين أريدوا فى هذه الاية هم الذين أخلوا مركزهم الذى أمرهم رسول الله بحفظه وهم من خيار المسلمين ولكن هذه ارادة عارضة حملتهم على ترك المركز والاقبال على كسب الغنائم بخلاف من كان مراده بعمله الدنيا وعاجلها فهذه الارادة لون وارادة هؤلاء لون

وها هنا أمر يجب التنبيه له وهو أنه لا يمكن ارادة الدنيا وعاجلها بأعمال البر دون الاخرة مع الايمان بالله ورسوله ولقائه أبدا فان الايمان بالله والدار الاخرة يستلزم ارادة العبد لرحمة الله والدار الاخرة بأعماله فحيث كان مراده بها الدنيا فهذا لا يجامع الايمان أبدا وان جامع الاقرار والعلم فالايمان وراء ذلك والاقرار والمعرفة حاصلان لمن شهد الله سبحانه له بالكفر مع هذه المعرفة كفرعون وثمود واليهود الذين شاهدوا رسول الله وعرفوه كما عرفوا أبناءهم وهم من أكفر الخلق بإرادة الدنيا وعاجلها بالاعمال قد تجامع هذه المعرفة والعلم ولكن الايمان الذى هو وراء ذلك لا بد أن يريد صاحبه بأعماله الله والدار الآخرة والله المستعان
فصل: والمقصود أنه سبحانه جعل الغنى والفقر ابتلاءا وامتحانا للشكر والصبر والصدق والكذب والاخلاص والشرك قال تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} وقال تعالى {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وقال تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فجعل الدنيا عرضا عاجلا ومتاع غرور وجعل الآخرة دار جزاء وثواب وحف الدنيا بالشهوات وزينها بها كما قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ

مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} فأخبر سبحانه أن هذا الذى زين به الدنيا

ص -168- من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أمانى طلابها ومؤثريها على الآخرة وهو سبعة أشياء النساء اللاتى هن أعظم زينتها وشهواتها وأعظمها فتنة والبنين الذين بهم كمال الرجل وفخره وكرمه وعزه والذهب والفضة اللذين هما مادة الشهوات على اختلاف أجناسها وأنواعها والخيل المسومة التى هى عز أصحابها وفخرهم وحصونهم وآلة قهرهم لأعدائهم فى طلبهم وهربهم والأنعام التى منها ركوبهم وطعامهم ولباسهم وأثاثهم وأمتعتهم وغير ذلك من مصالحهم والحرث الذى هو مادة قوتهم وقوت أنعامهم ودوابهم وفاكهتهم وأدويتهم وغير ذلك

ثم أخبر سبحانه أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا ثم شوق عباده الى متاع الآخرة وأعلمهم أنه خير من هذا المتاع وأبقى فقال {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
ثم ذكر سبحانه من يستحق هذا المتاع ومن هم أهله الذين هم أولى به فقال { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } فأخبر سبحانه أن ما أعد لأوليائه المتقين من متاع الآخرة خير من متاع الدنيا وهو نوعان ثواب يتمتعون به وأكبر منه وهو رضوانه عليهم قال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ

الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} فأخبر سبحانه عن حقيقة الدنيا بما جعله مشاهدا لأولى البصائر وانها لعب ولهب تلهو بها النفوس وتلعب بها الابدان واللعب واللهو لا حقيقة لهما وأنهما مشغلة للنفس مضيعة للوقت يقطع بها الجاهلون فيذهب ضائعا فى غير شئ ثم أخبر أنها زينة زينت للعيون وللنفوس فأخذت بالعيون

ص -169- والنفوس استحسانا ومحبة ولو باشرت القلوب معرفة حقيقتها ومآلها ومصيرها لأبغضتها ولآثرت عليها الاخرة ولما آثرتها على الآجل الدائم الذى هو خير وأبقى

قال الامام حدثنا وكيع حدثنا المسعودى عن عمرو بن مرة عن ابراهيم عن علقمة عن عبدالله رضى الله عنه عن النبى قال: "مالى وللدنيا انما مثلى ومثل الدنيا كمثل راكب قال فى ظل شجرة فى يوم صائف ثم راح وتركها".
وفى جامع الترمذى من حديث سهل بن سعد قال قال رسول الله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء قال الترمذى + حديث صحيح + وفى صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال رسول الله: "ما الدنيا فى الآخرة الا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع وأشار بالسبابة".
وفى الترمذى من حديثه قال: "كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله على السخلة الميتة فقال رسول الله أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا ومن هوانها ألقوها يا رسول الله قال فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" وفى الترمذى أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها الا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما" والحديثان حسنان قال الامام أحمد حدثنا هيثم بن خارجة أنبأنا اسماعيل بن عياش بن عبد الله بن دينار النهرانى قال قال عيسى عليه السلام للحواريين بحق أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الاخرة وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة وأن عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق أقول لكم إن

شركم عملا عالم يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة انه لو يستطيع جعل الناس كلهم فى عمله مثله.

ص -170- وقال أحمد حدثنا يحيى بن إسحق قال أخبرنى سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال قال عيسى بن مريم عليه السلام يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبنى على موج البحر دارا قالوا يا روح الله ومن يقدر على ذلك قال إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا وفى كتاب الزهد لأحمد أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول بحق أقول لكم ان أكل الخبز وشرب الماء العذب ونوما على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس

وفى المسند عنه: "إن الله ضرب طعام ابن آدم مثلا للدنيا وان قزحه وملحه فلينظر الى ماذا يصير".
فصل: ثم أخبر سبحانه وتعالى عنها انها يفاخر بعضنا بعضا بها فيطلبها ليفخر بها على صاحبه وهذا حال كل من طلب شيئا للمفاخرة من مال أو جاه أو قوة أو علم أو زهد والمفاخرة نوعان مذمومة ومحمودة فالمذمومة مفاخرة أهل الدنيا بها والمحمودة أن يطلب المفاخرة فى الاخرة فهذه من جنس المنافسة المأمور بها وهى أن الرجل ينفس على غيره بالشيء ويغار أن يناله دونه ويأنف من ذلك ويحمى أنفه له يقال نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة اذا ضننت به ولم تحب أن يصير اليه دونك والتنافس تفاعل من ذلك كأن كل واحد من المتنافسين يريد أن يسبق صاحبه اليه وحقيقة المنافسة الرغبة التامة والمبادرة والمسابقة الى الشئ النفيس
فصل: ثم أخبر تعالى عنها أنها تكاثر فى الاموال والاولاد فيحب كل واحد أن يكاثر بنى جنسه فى ذلك ويفرح بأن يرى نفسه أكثر من غيره

ص -171- مالا وولدا وأن يقال فيه ذلك وهذا من أعظم ما يلهى النفوس عن الله والدار الاخرة كما قال تعالى { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } والتكاثر فى كل شئ فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الامور عن الله والدار الاخرة فهو داخل فى حكم هذه الاية فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال ومنهم من يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم فيجمعه تكاثرا وتفاخرا وهذا أسوأ حالا عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه فإنه جعل أسباب الاخرة للدنيا وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها
فصل: ثم أخبر سبحانه عن مصير الدنيا وحقيقتها وأنها بمنزلة غيث أعجب الكفار نباته والصحيح ان شاء الله أن الكفار هم الكفار بالله وذلك عرف القرآن حيث ذكروا بهذا النعت فى كل موضع ولو أراد الزراع لذكرهم باسمهم الذى يعرفون به كما ذكرهم به فى قوله يعجب الزراع وانما خص الكفار به لأنهم أشد اعجابا بالدنيا فإنها دارهم التى لها يعملون ويكدحون فهم أشد اعجابا بزينتها وما فيها من المؤمنين
ثم ذكر سبحانه عاقبة هذا النبات وهو اصفراره ويبسه وهذا آخر الدنيا ومصيرها ولو ملكها العبد من أولها الى آخرها فنهايتها ذلك فإذا كانت الاخرة انقلبت الدنيا واستحالت الى عذاب شديد أو مغفرة من الله وحسن ثوابه وجزائه كما قال على بن أبى طالب الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عفها ومطلب نجح لمن سالم فيها مساجد انبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه فيها اكتسبوا الرحمة وربحوا فيها العافية فمن ذا يذمها وقد آذنت بنيها ونعت نفسها وأهلها فتمثلت ببلائها وشوقت بسرورها الى السرور تخويفا وتحذيرا وترغيبا فذمها قوم غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا ووعظتهم فاتعظوا فيا أيها الذام للدنيا المغتر بتغريرها متى استذمت اليك بل متى غرتك أبمنازل آبائك فى

الثرى أم بمضاجع أمهاتك فى البلاء كم رأيت

ص -172- موروثا كم عللت بكفيك عليلا كم مرضت مريضا بيديك تبتغى له الشفاء وتستوصف له الأطباء ثم لم تنفعه شفاعتك ولم تسعفه طلبتك مثلت لك الدنيا غداة مصرعه مصرعك ومضجعه مضجعك ثم التفت الى المقابر فقال يا أهل الغربة ويا أهل التربة أما الدور فسكنت وأما الاموال فقسمت وأما الأزواج فنكحت فهذا خبر ما عندنا فهاتوا خبر ما عندكم ثم التفت الينا فقال أما لو أذن لهم لأخبروكم ان خير الزاد التقوى

فالدنيا فى الحقيقة لا تذم وانما يتوجه الذم الى فعل العبد فيها وهى قنطرة أو معبر إلى الجنة أو الى النار ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها وهو الغالب على اسمها صار لها اسم الذم عند الاطلاق والا فهى مبنى الاخرة ومزرعتها ومنها زاد الجنة وفيها اكتسبت النفوس الايمان ومعرفة الله ومحبته وذكره ابتغاء مرضاته وخير عيش ناله أهل الجنة فى الجنة انما كان بما زرعوه فيها وكفى بها مدحا وفضلا لأولياء الله فيها من قرة العيون وسرور القلوب وبهجة النفوس ولذة الارواح والنعيم الذى لا يشبهه نعيم بذكره ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والانابة اليه والانس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والاقبال عليه والاشتغال به عمن سواه وفيها كلامه ووحيه وهداه وروحه الذى ألقاه من أمره فأخبر به من شاء من عباده ولهذا فضل ابن عقيل وغيره هذا على نعيم الجنة وقالوا هذا حق الله عليهم وذاك حظهم ونعيمهم وحقه أفضل من حقهم قالوا والايمان والطاعة أفضل من جزائه والتحقيق أنه لا يصح التفضيل بين أمرين فى دارين مختلفين ولو أمكن اجتماعهما فى دار واحدة لأمكن طلب التفضيل والايمان والطاعة فى هذه الدار أفضل ما فيها ودخول الجنة والنظر إلى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والفوز برضاه أفضل ما فى الاخرة فهذا أفضل ما فى هذه الدار

وهذا أفضل ما فى الدار الاخرى ولا يصح أن يقال فأى الامرين أفضل فهذا أفضل الاسباب وهذا أفضل الغايات وبالله التوفيق

ص -173- فصل: ولما وصف سبحانه حقيقة الدنيا وبين غايتها ونهايتها وانقلابها فى الاخرة الى عذاب شديد ومغفرة من الله وثواب أمر عباده بالمسابقة والمبادرة إلى ما هو خير وأبقى وأن يؤثروه على الفانى المنقطع المشوب بالانكاد والتنغيص ثم أخبر أن ذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}

ثم ذكر سبحانه أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا وأن الباقيات الصالحات وهى الاعمال والاقوال الصالحة التى يبقى ثوابها ويدوم جزاؤها خير ما يؤمله العبد ويرجو ثوابه وقال تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
ولما أخبر عباده عن آفات هذه الدار دعا عباده الى دار السلام التى سلمت من التغير والاستحالة والزوال والفناء وعم عباده بالدعوة اليها عدلا وخص من شاء بالهداية الى طريقها فضلا
وأخبر سبحانه أن الاموال والاولاد لا تقرب الخلق اليه وانما يقربهم اليه تقوى الله ومعاملته فيهم وحذر سبحانه عباده أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكره وأخبر أن من ذلك فعل فهو الخاسر حقيقة لا من قل ماله وولده فى الدنيا ونهى نبيه أن يمد

عينيه الى ما متع به أهل الدنيا فيها فتنة لهم واختبارا وأخبر أن رزقه الذى أعده له فى الاخرة خير وأبقى من هذا الذى متعوا به
وأخبر سبحانه انه آتاه السبع المثانى والقرآن العظيم وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا فى دنياهم وجعل ما آتاه مانعا له من مد

ص -174- عينيه الى ذلك فهذا العطاء فى الدنيا وما ادخر له من رزق الآخرة خير مما متع به أهل الدنيا فلا تمدن عينيك

فصل: وإذا عرف أن الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده تمتحن بها صبره وشكره علم أن الصبر والشكر مطيتان للايمان لا يحمل إلا عليهما ولا بد لكل مؤمن منهما وكل منهما فى موضعه أفضل فالصبر فى مواطن الصبر أفضل والشكر فى مواضع الشكر أفضل هذا إن صح مفارقة كل واحد منهما للآخر وأما إذا كان الصبر جزء مسمى الشكر والشكر جزء مسمى الصبر وكل منهما حقيقة مركبة من الأمرين معا كما تقدم بيانه فالتفضيل بينهما لا يصح الا اذا جرد أحدهما عن الاخر وذلك فرض ذهنى يقدره الذهن ولا يوجد فى الخارج ولكن يصح على وجه وهو أن العبد قد يغلب صبره على شكره الذى هو قدر زائد على مجرد الصبر من الاقوال والاعمال الظاهرة والباطنة فلا يبقى فيه اتساع لغير صبر النفس على ما هو فيه لقوة الوارد وضيق المحل فتنصرف قواه كلها الى كف النفس وحبسها لله وقد يغلب شكره بالاقوال والاعمال الظاهرة والباطنة على قوة كفه لنفسه وحبسها لله فتكون قوة إرادته وعمله أقوى من قوة امتناعه وحبس نفسه
واعتبر هذا بشخصين أحدهما حاكم على نفسه متمكن من حبسها عن الشهوات قليل التشكى للمصيبات وذلك جل عمله وآخر كثير الاعطاء لفعل الخير القاصر والمتعدى سمح النفس ببذل المعروف وآخر ضعيف النفس عن قوة الصبر فللنفس قوتان قوة الصبر والكف وامساك النفس وقوة البذل وفعل الخير والاقدام على فعل ما تكمل به وكمالها باجتماع هاتين القوتين فيها والناس فى ذلك أربع طبقات فأعلاهم من اجتمعت له القوتان

وسفلتهم من عدم القوتين ومنهم من قوة صبره أكمل من قوة فعله وبذله ومنهم من هو بالعكس فى ذلك فإذا فضل الشكر على الصبر فإما أن يكون باعتبار ترجيح مقام على مقام واما أن

ص -175- يكون باعتبار تجريد كل من الامرين عن الاخر وقطع النظر عن اعتباره وتمام ايضاح هذا بمسالة الغنى الشاكر والفقير الصابر فلنذكر لها بابا يخصها ويكشف عن الصواب فيها.

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثاني والعشرون في اختلاف الناس في الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب في ذلك

الباب الثانى والعشرون: فى اختلاف الناس فى الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب فى ذلك
هذه مسألة كثر فيها النزاع بين الاغنياء والفقراء واحتجت كل طائفة على الاخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار ولذلك يظهر للمتأمل تكافؤ الطائفتين فإن كلا منهما أدلت بحجج لا تدفع والحق لا يعارض بعضه بعضا بل يجب اتباع موجب الدليل أين كان وقد أكثر الناس فى المسألة من الجانبين وصنفوا فيها من الطرفين وتكلم الفقهاء والفقراء والاغنياء والصوفية وأهل الحديث والتفسير لشمول معناها وحقيقتها للناس كلهم وحكوا عن الامام أحمد فيها روايتان ذكرهما أبو الحسين فى كتاب التمام فقال مسألة الفقير الصابر أفضل من الغنى الشاكر فى أصح الروايتين وفيه رواية ثانية الغنى الشاكر أفضل وبها قال جماعة منهم ابن قتيبة ووجه الاولى واختارها أبو اسحاق بن شاقلا والوالد السعيد قوله تعالى {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}
قال محمد بن على بن الحسين الغرفة الجنة بما صبروا قال على الفقر فى الدنيا وروى أنس عن النبى: "قال اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين يوم القيامة "فقالت عائشة ولم يا رسول الله قال انهم يدخلون الجنة قبل الاغنياء بأربعين خريفا يا عائشة لا تردى المسكين ولو بشق تمرة يا عائشة أحبى المساكين وقربيهم فان الله يقربك يوم القيامة"
قلت لا حجة له فى واحدة من الحجتين أما الاية فالصبر فيها

ص -176- يتناول صبر الشاكر على طاعته وصبره عن مصيبته وصبر المبتلى بالفقر وغيره على بلائه ولو كان المراد بها الصبر على الفقر وحده لم يدل رجحانه على الشكر فإن القرآن كما دل على جزاء الصابرين دل على جزاء الشاكرين أيضا كما قال تعالى وسنجزى الشاكرين وسيجزى الله الشاكرين بل قد أخبر أن رضاه فى الشكر ورضاه أكبر من جزائه بالجنات وما فيها واذا جزى الله الصابرين الغرفة بما صبروا لم يدل ذلك على أنه لا يجزى الشاكرين الغرفة بما شكروا وأما الحديث فلا حجة فيه لوجهين أحدهما أنه لا يحتج بإسناده فانه من رواية محمد بن ثابت الكوفى عن الحارث بن النعمان والحارث هذا لم يحتج به أصحاب الصحيح بل قال فيه البخارى منكر الحديث ولذلك لم يصحح الترمذى حديثه هذا ولا حسنه ولا سكت عنه بل حكم بغرابته
الجواب الثانى: إن الحديث لو صح لم يدل على مطلوبهم فان المسكنة التى يحبها الله من عبده ليست فقر المال بل مسكنة القلب وهى انكساره وذله وخشوعه وتواضعه لله وهذه المسكنة لا تنافى الغنى ولا يشترط لها الفقر فان انكسار القلب لله ومسكنته لعظمته وجلاله وكبريائه وأسمائه وصفاته أفضل وأعلى من مسكنة عدم المال كما أن صبر الواجد عن معاصى الله طوعا واختيارا وخشية من الله ومحبة له أعلى من صبر الفقير العاجز وقد آتى الله جماعة من أنبيائه ورسله الغنى والملك ولم يخرجهم ذلك عن المسكنة لله
قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا الجريرى عن أبى السليل قال كان داود النبى عليه السلام يدخل فينظر أغمص حلقة من بنى إسرائيل فيجلس اليهم ثم يقول مسكين بين ظهرانى مساكين هذا مع ما آتاه الله من الملك والغنى والبسطة زيادة على النبوة
قال أبو الحسين وروى أبو برزة الاسلمى قال قال رسول الله:

ص -177- "إن فقراء المسلمين ليدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار أربعين خريفا حتى يتمنى أغنياء المسلمين يوم القيامة أنهم كانوا فقراء فى الدنيا"
قلت هذا الحديث ثابت عن النبى من رواية جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبدالله وروى عن أبى سعيد وأنس بن مالك ولا يدل ذلك على علو درجتهم اذا دخلوا الجنة قبل الاغنياء بل انما يدل على السبق لعدم ما يحاسبون عليه ولا ريب أن ولي الأمر العادل يتأخر دخوله للحساب وكذلك الغنى الشاكر ولا يلزهم من تأخر دخولهما نزول درجتهما عن درجة الفقير كما تقدم وانما تمنى الأغنياء أنهم كانوا فى الدنيا فقراء فان صحت هذه اللفظة لم تدل على انحطاط درجتهم كما يتمنى القاضى العادل فى بعض المواطن يوم القيامة أن لم يقض بين اثنين فى تمرة لما يرى من شدة الامر فمنزلة الفقر والخمول ومنزلة السلامة ومنزلة الغنى والولاية ومنزلة الغنيمة أو العطب قال أبو الحسن وروى ابن عمر أن النبى قام فى أصحابه فقال: "أى الناس خير فقال بعضهم غنى يعطى حق نفسه وماله فقال: نعم الرجل هذا وليس به ولكن خير الناس مؤمن فقير يعطى على جهد".
قلت لم يذكر لهذا الحديث إسناد فينظر فيه وحديث لا يعلم حاله لا يحتج به ولو صح لم يكن فيه دليل لأنه تضمن تفضيل فقير يتصدق من جهد فمعه فقر الصابرين وغنى الشاكرين فقد جمع بين موجب التفضيل وسببه ولا ريب أن هذا أفضل الاقسام الثلاثة ودرهمه الواحد يسبق مائة الف درهم من غيره كما قال النبى: "سبق درهم مائة ألف درهم" قالوا يا رسول الله كيف سبق درهم مائة ألف درهم قال رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه مائة الف فتصدق بها" رواه النسائى من حديث صفوان بن عيسى حدثنا بن عجلان عن زيد بن أسلم عن ابى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه
وذكر البيهقى من حديث الثورى عن أبى اسحاق عن الحارث عن

ص -178- على رضى الله عنه قال جاء ثلاثة نفر الى النبى فقال أحدهم كانت لى مائة أوقية فتصدقت منها بعشر أواق وقال الآخر كانت لى مائة دينار فتصدقت منها بعشر دنانير وقال الاخر كان لى عشرة دنانير فتصدقت منها بدينار فقال كلكم فى الاجر سواء كلكم قد تصدق بعشر ماله
وقال أبو سعيد بن الاعرابى حدثنا ابن أبى العوام حدثنا يزيد بن هرون حدثنا أبو الاشهب عن الحسن قال قال رجل لعثمان بن عفان رضى الله عنه ذهبتم يا أصحاب الاموال بالخير تتصدقون وتعتقون وتحجون وتنفقون فقال عثمان وإنكم لتغبطوننا وانا لنغبطكم قال فوالله لدرهم ينفقه أحد من جهد خير من عشرة آلاف درهم غيض من فيض
وفى سنن أبى داود من حديث الليث عن ابى الزبير عن يحيى بن جعدة عن ابى هريرة أنه قال يا رسول الله أى الصدقة أفضل قال جهد المقل وابدأ بمن تعول وفى المسند وصحيح ابن حبان من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال قلت يا رسول الله أى الصدقة أفضل قال جهد من مقل وفى سنن النسائى من حديث الاوزاعى عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن حبشى أن النبى سئل أى الاعمال أفضل قال ايمان لا شك فيه وجهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة قيل فأى الصلاة افضل قال طول القيام قيل فأى الصدقة افضل قال جهد من مقل قيل فأى الهجرة أفضل قال من هجر ما حرم الله عليه قيل فأى الجهاد أفضل قال من أهريق دمه وعقر جواده
وهذه الاحاديث كلها تدل على أن صدقة جهد المقل أفضل من صدقة كثير المال ببعض ماله الذى لا يتبين أثر نقصانه عليه وان كان كثيرا لأن الاعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما فى القلوب لا بكثرتها وصورها بل بقوة الداعى وصدق الفاعل واخلاصه وإيثاره الله على نفسه فأين

ص -179- صدقة من آثر الله على نفسه برغيف هو قوته الى صدقة من أخرج مائة ألف درهم من بعض ماله غيضا من فيض فرغيف هذا درهمه فى الميزان اثقل من مائة ألف هذا والله المستعان
فصل: واحتجوا بما رواه ابن عدى من حديث سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد بن يزيد عن أبيه عن عطاء سمع أبا سعيد الخدرى يقول سمعت رسول الله يقول: "اللهم توفنى فقيرا ولا توفنى غنيا" وهذا الحديث لا يصح فان خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن مالك الدمشقى أجمعوا على ضعفه وعدم الاحتجاج بحديثه قال أحمد ليس بشئ وقال أبن معين واه ونسبه يحيى الى الكذب وقد تقدم فيه وقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة فقال قد تنازع كثير من المتأخرين فى الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد ورجح هذا طائفة أخرى من العلماء والعباد وحكى فى ذلك عن الامام أحمد روايتان وأما الصحابة والتابعون رضى الله عنهم فلم ينقل عن أحد منهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر وقد قالت طائفة ثالثة ليس لأحدهما على الاخرى فضيلة الا بالتقوى فإيهما أعظم ايمانا وتقوى كان افضل فإن استويا فى ذلك استويا فى الفضيله قال وهذا أصح الاقوال لأن نصوص الكتاب والسنة انما تفضل بالايمان والتقوى وقد قال تعالى {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وقد كان فى الانبياء والسابقين الاولين من الاغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الاغنياء والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا وحال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما
ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع والغنى لآخرين أنفع كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع كما فى الحديث الذى رواه البغوى وغيره عن النبى فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "ان

ص -180- من عبادى من لا يصلحه الا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وان من عبادى من لا يصلحه الا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وان من عبادى من لا يصلحه الا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وان من عبادى من لا يصلحه الا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك انى أدبر عبادى انى بهم خبير بصير".
وقد صح عن النبى أنه قال: "ان فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الاغنياء" وفى الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلاة سمع بذلك الاغنياء فقالوا مثل ما قالوا فذكر ذلك الفقراء للنبى فقال {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فالفقراء يتقدمون فى دخول الجنة لخفة الحساب عليهم والاغنياء يؤخرون لأجل الحساب عليهم ثم اذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته فى الجنة فوقه وان تأخر فى الدخول كما أن السبعين الفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم عكاشه بن محصن قد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم فى الدرجات لكن أولئك استراحوا من تعب الحساب فهذا فى الفقر المذكور فى الكتاب والسنة وهو ضد الغنى الذى يبيح أخذ الزكاة أو الذى لا يوجب الزكاة
ثم قد صار فى اصطلاح كثير من الناس الفقر عبارة عن الزهد والعبادة والاخلاق ويسمون من اتصف بذلك فقيرا وان كان ذا مال ومن لم يتصف بذلك قالوا ليس بفقير وان لم يكن له مال وقد يسمى هذا المعنى تصوفا ومن الناس من يفرق بين مسمى الفقير والصوفى ثم من هؤلاء من يجعل مسمى الفقير أفضل ومنهم من يجعل مسمى الصوفى أفضل والتحقيق فى هذا الباب أنه لا ينظر الى الالفاظ المحدثة بل ينظر الى ما جاء به الكتاب والسنة من الاسماء والمعانى والله قد جعل وصف أوليائه الايمان والتقوى فمن كان نصيبه من ذلك أعظم كان أفضل والاغنياء بما سوى ذلك والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثالث والعشرون في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار

ص -181- الباب الثالث والعشرون: فى ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار
قالت الفقراء لم يذكر الله سبحانه الغنى والمال فى القرآن الا على أحد وجوه الأول على وجه الذم كقوله تعالى {كَلاَّ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وقوله {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْض} وقوله {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} الاية ونظائر ذلك كثير
الوجه الثانى: أن يذكره على وجه الابتلاء والامتحان كما قال تعالى {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال تعالى {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} وقال تعالى مخبرا عن ابتلائه بالغنى كما ابتلى بالفقر {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}

الاية وقال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
الوجه الثالث: اخباره سبحانه وتعالى أن الاموال والاولاد لا تقرب اليه شيئا
وانما يقرب اليه الايمان والعمل الصالح كما قال {وَمَا أَمْوَالُكُمْ

ص -182- وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}

الوجه الرابع: إخباره أن الدنيا والغنى والمال انما جعلها متعة لمن لا نصيب له فى الاخرة وأن الآخرة جعلها للمتقين فقال تعالى {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وإلى هذا المعنى أشار النبى بقوله "لعمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة" وسيأتى الحديث
الوجه الخامس: أنه سبحانه لم يذكر المترفين وأصحاب الثروة إلا بالذم كقوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} وقوله {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وقوله تعالى {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}
الوجه السادس أنه سبحانه ذم محب المال فقال وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما فذمهم بحب المال وعيرهم به
الوجه السابع: أنه سبحانه ذم متمنى الدنيا والغنى والسعة فيها ومدح من أنكر عليهم وخالفهم فقال تعالى عن أغنى أهل زمانه فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ عظيم وقال

الذين أوتو العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها الا الصابرون فأخبروا أن ما عند الله خير من الدنيا لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقى هذه الوصية وهى الكلمة التى تكلم بها الذين أوتوا العلم أو المثوبة والجنة التى دل عليها قوله ثواب الله خير والسيرة والطريقة التى دل عليها قوله لمن آمن وعمل

ص -183- صالحا وعلى كل حال لا يلقى ذلك إلا الصابرون على الفقر وعن الدنيا وشهواتها وما أترف فيه الاغنياء وقد شهد الله سبحانه لهم أنهم من أهل العلم دون الذين تمنوا الدنيا وزينتها

الوجه الثامن: انه سبحانه أنكر على من ظن أن التفضيل يكون بالمال الذى يحتاج اليه لاقامة الملك فكيف بما هو زيادة وفضلة فقال تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} فرد الله سبحانه قولهم وأخبر سبحانه أن الفضل ليس بالمال كما توهموه وأن الفضل بالعلم لا بالمال وقال سبحانه قال بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضله ورحمته العلم والايمان والقرآن والذى يجمعونه هو المال وأسبابه ومثله قوله تعالى أهم يقسمون رحمة ربك الى قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون
الوجه التاسع: انه سبحانه أخبر أن التكاثر فى جمع المال وغيره ألهى الناس وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها وتوعدهم على ذلك فقال تعالى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت فزاروا المقابر ولم يفيقوا من رقدة من ألهاهم التكاثر وجعل الغاية زيارة المقابر

دون الموت ايذانا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين فى القبور وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا فى الدنيا زائرين لها غير مستقرين فيها ودار القرار هى الجنة أو النار ولم يعين سبحانه المتكاثر به بل ترك ذكره اما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشئ لا المتكاثر به كما يقال شغلك اللعب واللهو ولم يذكر ما يلعب ويلهو به واما ارادة الاطلاق وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من مال أو جاه أو عبيد أو اماء أو

ص -184- بناء أو غراس أو علم لا ينبغى به وجه الله أو عمل لا يقربه الى الله فكل هذا من التكاثر الملهى عن الله والدار الآخرة
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه قال: "انتهيت الى النبى وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت"، ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا اذا عاين تكاثره هباء منثورا وعلم دنياه التى كاثر بها انما كانت خدعا وغرورا فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له وخسر هنالك تكاثره كما خسر أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن فى حسابه وصار تكاثره الذى شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه فعذب بتكاثره فى دنياه ثم عذب به فى البرزخ ثم يعذب به يوم القيامة فكان أشقى بتكاثره اذ أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة فلم يفز من تكاثره الا بأن صار من الأقلين ولم يحفظ به من علوه به فى الدنيا بأن حصل مع الاسفلين فيا له تكاثرا ما أقله ورزءا ما أجله ومن غنى جالبا لكل فقر وخيرا توصل به الى كل شر يقول صاحبه اذا انكشف عنه غطاؤه يا ليتنى قدمت لحياتى وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتى رب ارجعونى لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا انها كلمة هو قائلها تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها
وتأمل قوله أولا { رَبّ } استغاث بربه ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدى ربه تبارك وتعالى فقال أرجعونى ثم ذكر سبب سؤال الرجعة وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه فيقال له كلا لا سبيل لك الى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له فى المهلة لتيذكر مافاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو

ص -185- قائلها لا حقيقة تحتها وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب وانما ذلك شئ يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهى عنه وأنه من الكاذبين فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى اجابته الى ما سأل فإنه لا فائدة فى ذلك ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الاولى كما قال تعالى ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن الذى بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه فتأمله
وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته

فلما عاينوا

ص -186- العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه

فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع

عليه وليه عاقبك وهو يعلم

ص -187- ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه

وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم
ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع وبالله التوفيق فلنرجع الى تمام الكلام فيها
وقوله {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} جوابه محذوف دل عليه ما تقدم أى لما ألهاكم التكاثر وانما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين وهو العلم الذى يصل به صاحبه الى حد الضروريات التى لا يشك ولا يمارى فى صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا العلم الى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه ويرتب أثره عليه فإن مجرد العلم بقبح الشئ وسوء عواقبه قد لا يكفى فى تركه فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد فاذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شئ وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضى الله عنه فى أهل بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قيل تأكيد لحصول العلم كقوله {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} وقيل ليس

ص -188- تأكيدا بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثانى فى القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه أحدها أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الاخلال بالفصاحة الثانى توسط ثم بين العلمين وهى مؤذنة بتراخى ما بين المرتبتين زمانا وخطرا الثالث ان هذا القول مطابق للواقع فإن المحتصر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ثم يعلم فى القبر وما بعده ذلك علما هو فوق الأول الرابع أن عليا بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر قال الترمذى حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازى عن عمرو بن أبى قيس عن الحجاج بن المنهال بن عمر عن زر عن على رضى الله عنه قال ما زلنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت الهاكم التكاثر
قال الواحدى: يعنى أن معنى قوله {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فى القبر
الخامس: ان هذا مطابق لما بعده من قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين وتقدم الأولى وتراخى الثانية عنها ثم ختم السورة بالاخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذى كان فيه فى الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا فاذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثانى عن محل صرفه كما فى جامع الترمذى من حديث عطاء بن أبى رباح عن ابن عمر عن النبى قال: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسئل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن ماذا عمل فيما علم".

ص -189- وفيه أيضا عن أبى برزة قال قال رسول الله: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أبلاه" قال هذا حديث صحيح
وفيه أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ان أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يعنى من النعيم أن يقال له ألم نصح جسمك ونرويك من الماء البارد
وفيه أيضا من حديث الزبير بن العوام رضى الله عنه لما نزلت لتسئلن يومئذ عن النعيم قال الزبير يا رسول الله فأى النعيم نسئل عنه وانما هو الأسودان التمر والماء قال أما انه سيكون قال هذا حديث حسن وعن أبى هريرة نحوه وقال انما هو الاسودان العدو حاضر سيوفنا على عواتقنا قال ان ذلك سيكون وقوله ان ذلك سيكون إما أن يكون المراد به أن النعيم سيكون ويحدث لكم وإما أن يرجع الى السؤال أي ان السؤال يقع عن ذلك وان كان تمرا وماء فانه من النعيم ويدل عليه قوله فى + الحديث الصحيح + وقد أكلوا معه رطبا ولحما وشربوا من الماء البارد "هذا من النعيم الذى تسئلون عنه يوم القيامة" فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه
وفى الترمذى من حديث أنس رضى الله عنه عن النبى قال: "يجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بذج فيوقف بين يدى الله تعالى فيقول الله أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فماذا صنعت فيقول يا رب جمعته وثمرته فتركته أوفر ما كان فارجعنى آتيك به فاذا أعيد لم يقدم خيرا فيمضى به الى النار" وفيه من حديث أبى سعيد وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا قال رسول الله: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وسخرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأس

ص -190- وترتع أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا فيقول لا فيقول له اليوم أنساك كما نسيتنى" قال هذا حديث صحيح
وقد زعم طائفة من المفسرين أن هذا الخطاب خاص بالكفار وهم المسؤلون عن النعيم وذكر ذلك عن الحسن ومقاتل واختار الواحدى ذلك واحتج بحديث ابى بكر لما نزلت هذه الآية قال رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبى الهيثم بن النبهان من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب وماء عذب أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذى نسأل عنه فقال رسول الله انما ذلك للكفار ثم قرأ وهل نجازى إلا الكفور قال الواحدى والظاهر يشهد بهذا القول لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم والمعنى أيضا يشهد بهذا القول وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم حيث اشركوا به وعبدوا غيره فاستحقوا أن يسئلوا عما أنعم به عليهم توبيخا لهم هل قاموا بالواجب فيه أم ضيعوا حق النعمة ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم قال وهذا معنى قول مقاتل وهو قول الحسن قال لا يسئل عن النعيم الا أهل النار
قلت ليس فى اللفظ ولا فى السنة الصحيحة ولا فى أدلة العقل ما يقتضى اختصاص الخطاب بالكفار بل ظاهر اللفظ وصريح السنة والاعتبار يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك ويدل على ذلك قول النبى عند قراءة هذه السورة يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فابليت الحديث وهو فى صحيح مسلم وقائل ذلك قد يكون مسلما وقد يكون كافرا ويدل عليه أيضا الأحاديث التى تقدمت وسؤال الصحابة النبى وفهمهم العموم حتى قالوا له وأى نعيم نسئل عنه وانما هو الاسودان فلو كان الخطاب مختصا

ص -191- بالكفار لبين لهم ذلك وقال ما لكم ولها انما هى للكفار فالصحابة فهموا التعميم والأحاديث صريحة فى التعميم والذى أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم
وأما حديث ابى بكر الذى أحتج به أرباب هذا القول فحديث لا يصح والحديث الصحيح فى تلك القصة يشهد ببطلانه ونحن نسوقه بلفظه ففى صحيح مسلم عن ابى هريرة قال: "خرج رسول الله ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبى بكر وعمر فقال ما أخرجكما من بيوتكما فى هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما قوما فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس فى بيته فلما رأته امرأته قالت مرحبا وأهلا فقال لها رسول الله وأين فلان قالت ذهب يستعذب لنا من الماء إذ جاء الأنصارى فنظر الى رسول الله وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال كلوا من هذا فأخذ المدية فقال له رسول الله إياك والحلوبة فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله لابى بكر وعمر والذى نفسى بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" فهذا الحديث الصحيح صريح فى تعميم الخطاب وأنه غير مختص بالكفار
وايضا فالواقع يشهد بعدم اختصاصه وأن الالهاء بالتكاثر واقع من المسلمين كثيرا بل أكثرهم قد الهاه التكاثر وخطاب القرآن عام لمن بلغه وان كان أول من دخل فيه المعاصرين لرسول الله فهو متناول لمن بعدهم وهذا معلوم بضرورة الدين وان نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ونظائره كما دخل

ص -192- تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين فقوله ألهاكم التكاثر خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف وهم فى الالهاء والتكاثر درجات لا يحصيها الا الله
فإن قيل فالمؤمنون لم يلههم التكاثر ولهذا لم يدخلوا فى الوعيد المذكور لمن الهاه قيل هذا هو الذى أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار لأنه لم يمكنهم حمله على العموم ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد فخصوهم به وجواب هذا أن الخطاب للانسان من حيث هو إنسان على طريقة القرآن فى تناول الذم له من حيث هو إنسان كقوله {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً} {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} {إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} ونظائره كثيرة فالانسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح وانما الله سبحانه هو الذى يكمله بذلك ويعطيه إياه وليس له ذلك من نفسه بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم والظلم المضاد للعدل وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه لا من نفسه فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته التى هى له من نفسه ولا خروج له عن ذلك الا بتزكية الله له وجعله مريدا للآخرة مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا فان أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر فى الدنيا ولا بد
وأما احتجاجه بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار فيقال الوعيد المذكو مشترك وهو العلم عند معاينة الآخرة فهذا أمر يحصل لكل أحد لم يكن حاصلا له فى الدنيا وليس فى قوله {سَوْفَ تَعْلَمُون} ما يقتضى دخول النار فضلا عن التخليد فيها وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها فان أهل الموقف يرونها ويشاهدونها عيانا وقد اقسم الرب تبارك وتعالى أنه لا بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم فليس فى جملة هذه السورة ما ينفى عموم خطابها وأما

ص -193- ما ذكره عن الحسن أنه لا يسأل عن النعيم الا أهل النار فباطل قطعا اما عليه واما منه والاحاديث الصحيحة الصريحة ترده وبالله التوفيق
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها وما تضمنته من تحذير الملهى وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها الى آخرها بالكفار ولا يليق ذلك بها ويكفى فى ذلك تأمل الاحاديث المرفوعة فيها والله أعلم
وتأمل ما فى هذا العتاب الموجع لمن استمر على الهاء التكاثر له مدة حياته كلها الى أن زار القبور ولم يستيقظ من نوم الالهاء بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق منه الا وهو فى عسكر الأموات وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتبين لك أن العموم مقصود وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا على اختلاف أجناسها وأنواعها وأيضا فان التكاثر تفاعل وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكثر صاحبه فيكون أكثر منه فيما يكاثره به والحامل له على ذلك توهمه أن العزة للكاثر كما قيل:
ولست بالأكثر منهم حصى وانما العزة للكاثر
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ولم تضرهم اذ لم يتكاثروا بها وكل من كاثر انسانا فى دنياه أو جاهه أو غير ذلك شغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية انما تكاثر بما يدوم عليها نفعه وتكمل به وتزكو وتصير مفلحة فلا تحب أن يكثرها غيرها فى ذلك وينافسها فى هذه المكاثرة ويسابقها اليها فهذا هو التكاثر الذى هو غاية سعادة العبد وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم فهذا تكاثر مله عن الله والدار الاخرة هو صائر الى غاية القلة فعاقبة هذا التكاثر قل وفقر وحرمان والتكاثر بأسباب السعادة الاخروية تكاثر لا يزال بذكر بالله ولقائه وعاقبته الكثرة الدائمة التى لا تزول ولا تفنى وصاحب هذا

ص -194- التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا وأحسن منه عملا وأغزر علما واذا رأى غيره أكثر منه فى خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها كاثره بخصلة أخرى هو قادر على المكاثرة بها وليس هذا التكاثر مذموما ولا قادحا فى اخلاص العبد بل هو حقيقة المنافسة واستباق الخيرات
وقد كانت هذه حال الاوس مع الخزرج رضى الله عنهم فى تصاولهم بين يدى رسول الله ومكاثرة بعضهم لبعض فى اسباب مرضاته ونصره وكذلك كانت حال عمر مع أبى بكر رضى الله عنهما فلما تبين له مدى سبقه له قال والله لا أسابقك الى شئ أبدا
فصل: ومن تأمل حسن موقع كلا فى هذا الموضع فانها تضمنت ردعا لهم وزجرا عن التكاثر ونفيا وابطالا لما يؤملونه من نفع التكاثر لهم وعزتهم وكمالهم به فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التى ألهتهم عن الاخرة رؤية بعد رؤية وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن اسباب تكاثرهم من أين استخرجوها وفيما صرفوها
فلله ما أعظمها من سورة وأجلها وأعظمها فائدة وأبلغها موعظة وتحذيرا واشدها ترغيبا فى الآخرة وتزهيدا فى الدنيا على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها وحسن نظمها فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا
فصل: وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم الى غاية كل حى زائرين غير مستوطنين بل هم مستودعون فى المقابر مدة وبين أيديهم دار القرار فإذا كانوا عند وصولهم الى الغاية زائرين فكيف بهم وهم فى الطريق فى هذه الدار فهم فيها عابرو سبيل الى محل الزيارة ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر فهنا هنا ثلاثة أمور عبور السبيل فى هذه الدنيا وغايته زيارة القبور وبعدها النقلة إلى دار القرار.

ص -195- فصل: فلنرجع الى تمام المناظرة قالوا فالله تعالى حمى أولياءه عن الدنيا وصانهم عنها ورغب بهم عنها تكريما لهم وتطهيرا عن أدناسها ورفعة عن دناءتها وذمهالهم وأخبرهم بهوانها عليه وسقوط قدرها عنده وأعلمهم أن بسطها فتنة وأنه سب الطغيان والفساد فى الارض وإلهاء التكاثر بها عن طلب الاخرة وأنها متاع الغرور وذم محبيها ومؤثريها وأخبر أن من أرادها أو أراد زينتها وحرثها فليس له فى الاخرة من نصيب واخبر أن بسطها فتنة وابتلاء لا كرامة ومحبة وإن إمداد أهلها بها ليس مسارعة لهم فى الخيرات وأنها لا تقرب اليه ولا تزلف لديه وأنه لولا تتابع الناس فى الكفر لأعطى الكفار منها فوق مناهم ووسعها عليهم أعظم التوسعة بحيث يجعل سقوف بيوتهم وأبوابهم ومعارجهم وسررهم كلها من فضة وأخبر أنه زينها لأعدائه ولضعفاء العقول الذين لا نصيب لهم فى الاخرة ونهى رسوله عن مد عينيه اليها والى مامتع به أهلها وذم من أذهب طيباته فيها واستمتع بها وقال لنبيه ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وفى هذا تعزية لما منعه أولياءه من التمتع بالدنيا وكثرة الأكل فيها وتأديب لمن بسط له فيها ألا يطغى فيها ولا يعطى نفسه شهواتها ولا يتمتع بها ولام سبحانه محبيها المفتخرين بها المكاثرين بها الظانين أن الفضل والكرامة فى سعتها وبسطها فأكذبهم الله سبحانه
واخبر أنه ليس كما قالوه ولا توهموه ومثلها لعباده بالأمثلة التى تدعو كل لبيب عاقل الى الزهد فيها وعدم الوثوق بها والركون اليها فأحضر صورتها وحقيقتها فى قلوبهم بما ضربه لها مثلا كماء أنزله من السماء فخالط نبات الأرض فلما أخذت به الارض زخرفها وتزينت بأنواع النبات أتاها أمره فجعل تلك الزينة يبسا هشيما تذروه الرياح كأن لم يكن قط منه شيء
وأخبر سبحانه عن فنائها وسرعة انقضائها وأنه اذا عاين العبد الأخرة فكأنه لبث فيها ساعة من نهار أو يوما أو بعض يوم ونهى سبحانه عباده

ص -196- أن يغتروا بها واخبرهم أنها لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر ومتاع غرور وطريق ومعبر الى الاخرة وأنها عرض عاجل لابقاء له ولم يذكر مريدها بخير قط بل حيث ذكره ذمه وأخبر أن مريدها مخالف لربه تعالى فى ارادته فالله يريد شيئا ومريد الدنيا يريد خلافه فهو مخالف لربه بنفس ارادته كفى بهذا بعدا عنه سبحانه واخبر سبحانه عن أهل النار انهم انما دخلوها بسبب غرور الدنيا وأمانيها لهم قالوا وهذا كله تزهيد لهم منه سبحانه فيها وترغيب فى التقلل منها ما أمكن
قالوا وقد عرضها سبحانه وعرض مفاتيح كنوزها على أحب الخلق اليه وأكرمهم عليه عبده ورسوله محمد فلم يردها ولم يخترها ولو أثرها وارادها لكان أشكر الخلق بما اخذه منها وأنفقه كله فى مرضاة الله وسبيله قطعا بل اختار التقلل منها وصبر على شدة العيش فيها
قال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن محمد حدثنا عباد يعنى ابن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبى عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت: "دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية فرجعت الى منزلها فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف فدخل على رسول الله فقال ما هذا فقلت فلانة الانصارية دخلت على فرأت فراشك فبعثت الى بهذا فقال رديه فلم أرده وأعجبنى أن يكون فى بيتى حتى قال ذلك ثلاث مرات فقال يا عائشة رديه والله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة"
وعرض عليه مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها وقال بل أجوع يوما وأشبع يوما فاذا جعت تضرعت اليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك وسأل ربه أن يجعل رزق أهله قوتا كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وفيهما عنه قال: "والذى نفس أبى هريرة بيده ما شبع نبى الله وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا".

ص -197- وفى صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه ما أعلم أن رسول الله رأى رغيفا مرققا ولا شاة سميطا قط حتى لحق بربه وفى صحيحه أيضا عنه قال خرج رسول الله ولم يشبع من خبز الشعير وفى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: "ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعا حتى قبض" وفى صحيح مسلم عن عمر رضى الله عنه: "لقد رأيت رسول الله يظل اليوم ما يجد دقلا يملأ بطنه"
وفى المسند والترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما كان رسول الله يبيت الليالى المتتابعات طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح وفى الترمذى من حديث أبى أمامة ما كان يفضل أهل بيت رسول الله خبز الشعير وفى المسند عن عائشة رضى الله عنها والذى بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله عز وجل الى أن قبض قال عروة فقلت فكيف كنتم تأكلون الشعير قالت كنا نقول أف أى ننفخه فيطير ما طار ونعجن الباقى
وفى صحيح البخارى عن أنس قال: "لقد رهن رسول الله درعه بشعير ولقد سمعته يقول ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى وانهم لتسعة ابيات" وفى مسند الحارث عن أبى أسامة عن أنس: "أن فاطمة رضى الله عنها جاءت بكسرة خبز الى النبى فقال ما هذه الكسرة يا فاطمة قالت قرص خبزته فلم تطب نفسى حتى أتيتك بهذه الكسرة فقال أما إنه أول طعام دخل فى فم أبيك منذ ثلاثة أيام".
وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن ابيه عن جابر رضى الله عنه قال لما حفر رسول الله الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبى على بطنه حجرا من الجوع
وقد أسرف أبو حاتم بن حبان فى تقاسيمه فى رد هذا الحديث وبالغ

ص -198- فى إنكاره وقال المصطفى أكرم على ربه من ذلك وهذا من وهمه وليس فى هذا ما ينقص مرتبته عند ربه بل ذلك رفعة له وزيادة فى كرامته وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الاحاديث فى معيشة النبى وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه أنه ملك طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك وسيرته سيرتهم ولقد توفاه الله وان درعه مرهونة عند يهودى على طعام أخذه لأهله وقد فتح الله عليه بلاد العرب وجبيت اليه الاموال ومات ولم يترك درهما واحدا ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة
قال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد بن مطرف عن أبى حازم عن عروة أنه سمع عائشة تقول كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد فى بيت من بيوت رسول الله نار قلت يا خالة فعلى أى شئ كنتم تعيشون قالت على الأسودين التمر والماء وقد تقدم حديث أبى هريرة فى قصة أبى الهيثم ابن النبهان وانه خرج رسول الله من بيته فرأى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما فقال ما أخرجكما قالا الجوع قال وأنا والذى نفسى بيده لأخرجنى الذى أخرجكما
وذكر أحمد من حديث مسروق قال: "دخلت على عائشة فدعت لى بطعام وقالت ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكى الا بكيت قال قلت لم قالت أذكر الحال التى فارق عليها رسول الله الدنيا والله ما شبع فى يوم مرتين من خبز البر حتى قبض" وفيه عنها: "ما شبع رسول الله من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض" والحديثان صحيحان وفيه ايضا عنها ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عزوجل وفى الصحيحين عن أبى هريرة: "ما شبع رسول الله وأهله ثلاثا أتباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا"
وفى الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان النبى يبيت الليالى طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير

ص -199- وفيه أيضا عن أنس عنه: "لقد اخفت فى الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة ومالى ولبلال طعام يأكله ولبد إلا شئ يواريه إبط بلال" والحديثان صحيحان وفيه ايضا عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن أبى طلحة رضى الله عنه قال: "شكونا الى رسول الله الجوع ورفعنا عن بطوننا حجرا حجرا فرفع رسول الله عن بطنه حجرين" وفيه أيضا عن علقمة عن عبدالله رضى الله عنه قال: "نام رسول الله على حصير فقام وقد اثر فى جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال مالى وللدنيا ما أنا فى الدنيا الا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" حديث صحيح وفيه عن على رضى الله عنه قال: "خرجت فى يوم شات من بيت رسول الله وقد أخذت اهابا معطونا فجوبت وسطه وأدخلته فى عنقى فشددت به وسطى فحزمته بخوص من النخل وانى لشديد الجوع ولو كان فى بيت رسول الله طعام لطعمت منه فخرجت التمس شيئا فمررت بيهودى فى مال له وهو يسقى ببكرة له فاطلعت عليه من ثلمة من الحائط فقال مالك يا أعرابى وهل لك فى كل دلو بتمرة قلت نعم فافتتح الباب حتى أدخل ففتح فدخلت فأعطانى دلوه فكلما نزعت دلوا أعطانى تمرة حتى امتلأت كفى أرسلت دلوه وقلت حسبى فأكلتها ثم جرعت من الماء فشربت ثم جئت الماء فوجدت رسول الله فيه وقال سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه لقد رأيتنا نغزو مع رسول الله ما لنا طعام الا الحبلة وهذا السمر والحبلة ثمر العضاة ذات الشوك" وهو حديث صحيح
وكان يصلى من الليل أحيانا وعليه كساء صوف بعضه عليه وبعضه على عائشة قال الحسن أثمان ستة دراهم أو سبعة وقال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو زائدة حدثنا عطاء عن أبيه عن على قال جهز رسول الله فاطمة فى خميل وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف والخميل الكساء الذى خمل قال وحدثنا بهز بن اسد حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد قال قال أبو بردة دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا

مما

ص -200- يصنع باليمن وكساء من هذه التى تدعونها الملبدة فقالت قبض رسول الله فى هذين الثوبين

قالوا ولو كان الغنى مع الشكر افضل من الفقر مع الصبر لاختاره رسول الله إذ عرضت عليه الدنيا ولأمره ربه أن يسأله إياه كما أمره أن يسأله زيادة العلم ولم يكن رسول الله ليختار الا ما اختاره الله له ولم يكن الله ليختار له الا الافضل اذ كان افضل خلقه وأكملهم
قالوا وقد أخبر النبى أن خير الرزق ما كان بقدر كفاية العبد فلا يعوزه ما يضره ولا يفضل عنه ما يطغيه ويلهيه
قال الامام أحمد حدثنا ابن مهدى حدثنا همام عن قتادة عن خليد العصرى عن أبى الدرداء قال قال رسول الله: "ما طلعت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين يا أيها الناس هلموا الى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ولا آبت شمس قط الا بعث بجنبيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض الا الثقلين اللهم أعط منفقا خلفا واعط ممسكا تلفا"
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن ابن ابى لبيبة عن سعد بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "خير الرزق ما يكفى وخير الذكر الخفى".
وتأمل جمعه فى هذا الحديث بين رزق القلب والبدن رزق الدنيا والآخرة واخباره أن خير الرزقين ما لم يتجاوز الحد فيكفى من الذكر اخفاؤه فإن زاد على الاخفاء خيف على صاحبه الرياء والتكبر به على الغافلين وكذلك رزق البدن اذا زاد على الكفاية خيف على صاحبه الطغيان والتكاثر
قالوا وقد غبط رسول الله المتقلل من الدنيا ما لم يغبط به الغنى
قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا على بن صالح عن أبى

ص -201- المهلب عن عبيد الله ابن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "ان أغبط أوليائى عندى مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وكان غامضا فى الناس لا يشار اليه بالاصابع فعجلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه" قال عبد الله بن أحمد سألت أبى ما تراثه قال ميراثه
قالوا وحمية الله لعبده المؤمن عن الدنيا انما هو من محبته له وكرامته قال الامام أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبى عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رضى الله عنه أن رسول الله قال: "ان الله تبارك وتعالى يحمى عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مرضاكم الطعام والشراب تخافون عليهم" قالوا وقل أن يقع اعطاء الدنيا وتوسعتها الا استدراجا من الله لا اكراما ومحبة لمن أعطاه
قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشد بن سعد عن حرملة بن عمران النجبى عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر رضى الله عنه عن النبى قال: "اذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه وما يحب فإنما هو استدراج" ثم تلا قوله تعالى فلما نسو ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شيء الآية قالوا ولهوان الدنيا على الله منعها أكثر أوليائه وأحبائه
قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن سالم بن ابى الجعد قال قال رسول الله: "ان من أمتى لو أتى باب احدكم فسأله دينارا لم يعطه اياه ولو سأله فلسا لم يعطه اياه ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاها اياه ولو سأله الدنيا لم يعطها اياه وما يمنعها اياه لهوانه عليه ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وهذا يدل على انه انما يمنعه اياها لهوانها عليه لا لهوانه هو عليه ولهذا يعطيه أفضل منها وأجل فإن الله تعالى يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الآخرة الا من يحب.

ص -202- قالوا وقد اخبرهم النبى أن أقربهم منه مجلسا ذووا التقلل من الدنيا الذين لم يستكثروا منها قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون أخبرنا محمد بن عمرو قال سمعت عراك بن مالك يقول قال ابو ذر: "إنى لأقربكم مجلسا من رسول الله يوم القيامة وذلك إنى سمعته يقول ان أقربكم منى مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها وانه والله ما منكم من أحد الا وقد تشبث منها بشيء غيرى" قالوا وقد غبط النبى من كان عيشه كفافا وأخبر بفلاحه قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حيوة قال أخبرنى أبو هانى أن أبا على الحبشى أخبره أنه سمع فضاله بن عبيد يقول أنه سمع رسول الله يقول: "طوبى لمن هدى الى الاسلام وكان عيشه كفافا وقنع".
وذكر أيضا من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: "قد أفلح من اسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه" قالوا ولو لم يكن فى التقلل الا خفة الحساب لكفى به فضلا على الغنى قال عبد الله بن الامام أحمد حدثنا بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنى بشر بن الحارث حدثنا عيسى بن يونس عن هشام عن الحسن قال قال رسول الله: "ثلاثة لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى عورته"
وقال الامام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ليث عن أبى عثمان قال لما افتتح المسلمون جوجى دخلوا يمشون فيها وأكداس الطعام فيها أمثال الجبال وكان رجل يمشى الى جنب سلمان فقال يا أبا عبد الله ألا ترى الى ما فتح الله علينا ألا ترى الى ما أعطانا الله فقال سلمان وما يعجبك مما ترى الى جنب كل حبة مما ترى حساب
قالوا وقد شهد النبى لأصحابه أنهم يوم فقرهم وفاقتهم خير منهم يوم غناهم وبسط الدنيا عليهم قال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد أبو الاشهب عن الحسن قال قال نبى الله: "يا أهل الصفة كيف أنتم"

ص -203- قالوا نحن بخير قال أنتم اليوم خير أم يوم تغدو على أحدكم جفنة وتروح أخرى ويغدو فى حلة ويروح فى أخرى وتسترون فى بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا نبى الله نحن يومئذ خير يعطينا ربنا تبارك وتعالى فنشكر قال: "بل أنتم اليوم خير" فهذا صريح فى أنهم فى وقت صبرهم على فقرهم خير منهم فى وقت غناهم مع الشكر
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبن ذر حدثنا حفص بن غياث عن داود بن أبى هند عن أبى حرب بن أبى الاسود عن طلحة البصرى قال قدمت المدينة ولم يكن لى بها معرفة فكان يجرى علينا مد من تمر بين اثنين فصلى بنا رسول الله صلاة فهتف به هاتف من خلفه فقال يا رسول الله قد حرق بطوننا التمر وعرفت عنا الكنف فخطب فحمد الله وأثنى عليه وقال: "والله لو أجد لكم اللحم والخبز لأطعمتكموه وليأتين عليكم زمان تغدو على أحدكم الجفان وتراح ولتلبسن بيوتكم مثل أستار الكعبة قالوا يا رسول الله نحن اليوم خير منا أو يومئذ قال بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ أنتم اليوم خير منكم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض"
قال الامام أحمد وحدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن نبى الله دخل على أهل الصفة فذكر نحوه
قالوا ولو لم يكن فى الغنى والمال الا أنه فتنة وقل من سلم من اصابتها له وتأثيرها فى دينه كما قال تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وفى الترمذى من حديث كعب ابن عياض قال سمعت رسول الله يقول ان لكل أمة فتنة وفتنة أمتى المال قال هذا حديث + حسن صحيح + قالوا والمال يدعو الى النار والفقر يدعو الى الجنة قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا أبو الاشهب حدثنا سعيد بن أيمن مولى كعب بن سور قال بينا رسول الله يحدث أصحابه اذ جاء رجل من الفقراء فجلس الى جنب رجل من الاغنياء فكأنه قبض من ثيابه عنه فقال

ص -204- رسول الله: "أخشيت يا فلان أن يغدو وغناك عليه أو يغدو فقره عليك قال يا رسول الله وشر الغنى قال نعم ان غناك يدعوك الى النار وان فقره يدعوه الى الجنة قال فما ينجينى منه قال تواسيه قال اذن افعل فقال الآخر لا أرب لى فيه قال فاستغفر وادع لأخيك"
قالوا وحق الغنى أعظم من أن يقوم العبد بشكره وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبى قال ليس لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يوارى به عورته وجلف الخبز والماء قال هذا حديث حسن صحيح وفى صحيح مسلم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "يا ابن آدم انك ان تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى".
وفى صحيحه أيضا من حديث أبى نضرة عن أبى سعيد رضى الله عنه قال بينما نحن فى سفر مع رسول الله اذ جاء رجل على راحلة له فجعل يضرب يمينا وشمالا فقال رسول الله: "من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا فى فضل".
قالوا فهذا موضع النظر فى تفضيل الغنى الشاكر ببذل الفضل كله وأما غنى يمتع بأنواع الفضل ويشكر بالواجب وبعض المستحب فكيف يفضل على فقير صابرا راض عن الله فى فقره قالوا وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر وانما يخاف عليهم الغنى ففى الصحيحين من حديث عمرو بن عوف وكان شهد بدرا أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح الى البحرين يأتى بجزيتها وكان رسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمى فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الانصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة

ص -205- الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله قال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
قال الامام أحمد حدثنا روح حدثنا هشام عن الحسن قال قيل لأبى ثعلبة الخشنى أين دنياكم والتى كنتم تعدون يا أصحاب محمد قال ليبشر الآخر بدنيا قد ظلت تأكل والله الذى لا اله الا هو الايمان كما تأكل النار الحطب الجزل وقال أحمد حدثنا يزيد حدثنا هشام بن حسان قال سمعت الحسن يقول: "والله ما أحد من الناس بسط الله له دنياه فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها الا كان قد نقص علمه وعجز رأيه وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه".
قالوا وقد مر على النبى فقير وغنى فقال عن الفقير: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" وروى البخارى فى صحيحه عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال مر رجل على رسول الله فقال: "ما تقولون فى هذا فقالوا جرى ان خطب أن ينكح وان شفع أن يشفع وان قال أن يسمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال ما تقولون فى هذا قالوا حرى ان خطب أن لا ينكح وان يشفع الأيشفع وان قال ان لا يسمع لقوله فقال رسول الله هذا خير من ملء الارض مثل هذا".
وقد بشر رسول الله الفقراء الصابرين بما لم يبشر به الأغنياء ففى الترمذى من حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله: "كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم فىالصلاة من الخصاصة وهم أصحاب الصفة حتى يقول الاعراب هؤلاء مجانين فإذا صلى رسول الله انصرف اليهم وقال لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة" قال فضالة وأنا يومئذ مع رسول الله وبشرهم بسبقهم الاغنياء الى الجنة.

ص -206- وقد اختلفت الروايات فى مدة هذا السبق ففى صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمر أنه جاء ثلاثة نفر فقالوا يا أبا محمد والله ما نقدر على شئ لا نفقة ولا دابة ولا متاع فقال لهم ما شئتم ان شئتم رفعتم الينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم وان شئتم ذكرنا أمركم للسلطان وان شئتم صبرتم فإنى سمعت رسول الله يقول: "ان فقراء المهاجرين يسبقون الاغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا قالوا نصبر ولا نسأل شيئا".
وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن بن سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" قال الترمذى حديث حسن صحيح وفى الترمذى أيضا من حديث أبى سعيد قال قال رسول الله: "فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة" وهو حديث حسن وفيه وأيضا من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه عن النبى قال: "يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا" وهو حديث حسن وهو موافق لحديث عبد الله بن عمر ولحديث أنس الذى فى الترمذى: "ان المساكين يدخلون قبل الاغنياء باربعين خريفا".
فهؤلاء ثلاثة جابر وأنس وعبد الله بن عمر وقد اتفقوا على الاربعين وهذا أبو هريرة وأبو سعيد قد اتفقا على التقدير بخمسمائة سنة ولا تعارض بين هذه الاحاديث إذ التأخر والسبق درجات بحسب الفقر والغنى فمنهم من يسبق باربعين ومنهم من يسبق بخمسمائة ولا يتقيد السبق بهذا المقدار بل يزيد عليه وينقص.
وقد روى أبو داود فى سننه من حديث أبى هريرة عن النبى: "أن أول الامة دخولا الى الجنة أبو بكر الصديق رضى الله عنه" ومعلوم أن المدة التى بينه وبين اخوانه من فقراء المهاجرين لا تطول وانها أطول مدة بين دخوله وبين دخول آخر من يدخل الجنة
وقد روى الامام أحمد فى مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضى

ص -207- الله عنه عن النبى أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة قالوا الله ورسوله أعلم قال فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء تقول الملائكة يا ربنا ملائكتك وخزنتك وسكان سماواتك لا تدخلهم الجنة قبلنا فيقول عبادى لا يشركون بى شيئا يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار".
وقال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد ثنا دويد عن مسلم بن بشير عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله: "التقى مؤمنان على باب الجنة مؤمن غنى ومؤمن فقير كانا فى الدنيا فأدخل الفقير الجنة وحبس الغنى ما شاء الله أن يحبس ثم أدخل الجنة فلقيه الفقير فيقول أى أخى ماذا حبسك والله لقد احتبست حتى خفت عليك فيقول أى أخى انى حبست بعدك محبسا فظيعا كريها ما وصلت اليك حتى سال منى من العرق ما لو ورده ألف بعير كلها أكلت حمصا لصدرت عنه رواء" وقال الطبرانى فى معجمه حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمى وعلى بن سعيد الرازى قالا حدثنا على بن بهرام العطار حدثنا عبد الملك ابن أبى كريمة عن الثورى عن محمد بن زيد عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: "إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة فقال رجل أمنهم أنا يا رسول الله قال إن تغديت رجعت على عشاء وإذا تعشيت يبيت معك غداء قال نعم قال لست منهم فقام رجل فقال أمنهم أنا يارسول الله قال هل سمعت ما قلنا لهذا قال نعم ولست كذلك قال هل تجد ثوبا ستيرا سوى ما عليك قال نعم قال فلست منهم فقام آخر فقال أمنهم أنا يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهذين قبلك قال نعم قال هل تجد قرضا كلما شئت أن تستقرض قال نعم قال فلست منهم فقام

ص -208- آخر فقال أمنهم أنا يارسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال تقدر ان تكتسب قال نعم قال فلست منهم قال فقام خامس فقال أنا منهم يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال هل تمسى عن ربك راضيا وتصبح كذلك قال نعم قال فأنت منهم قال النبى ان سادات المؤمين فى الجنة من اذا تغدى لم يجد عشاء واذا تعشى لم يبت عنده غداء وان استقرض لم يجد قرضا وليس له فضل كسوة إلا ما يوارى به مالا يجد منه بدا ولا يقدر على أن يكتسب ما يعشيه ويمسى عن الله راضيا ويصبح راضيا أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" قال الطبرانى هذا حديث غريب من حديث سفيان الثورى عن محمد بن زيد يقال هو العبدى تفرد به عبد الملك
قلت محمد هذا هو العبدى وثقه قوم وضعفه آخرون قال الداقطنى ليس بالقوى وقال أبو حاتم صالح الحديث وذكره ابن حبان فى الثقات وروى له الترمذى وابن ماجه وفى هذه الطبقة محمد بن زيد الشامى يروى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وهو متروك ونخاف أن يكون هذا هو الثورى لم ينسبه وانما يقال هو العبدى والله أعلم
وقال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن ابراهيم حدثنا هشام الدستوائى عن يحيى ابن أبى كثير عن عامر العقيلى عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "عرض على أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه وفقير متعفف ذو عيال وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مستلط وذو ثروة من مال لا يؤدى حق الله فى ماله وفقير فخور" وروى الترمذى منه ذكر الثلاثة الذين يدخلون الجنة فقط
قالوا ويكفى فى فضل الفقير أن عامة أهل الجنة الفقراء وعامة أهل النار الاغنياء قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد بن أبى شيبة حدثنا

ص -209- شريك عن ابى اسحاق عن السائب بن مالك عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله: "أطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت فى النار فرأيت أكثر اهلها الأغنياء والنساء".
وفى صحيح البخارى عن أبى رجاء قال جاء عمران بن حصين الى امرأته من عند رسول الله فقالت حدثنا ما سمعت من النبى فقال انه ليس من حديث فلم تدعه أو قال فأغضبته فقال سمعت رسول الله يقول: "نظرت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ونظرت فى النار فرأيت أكثر أهلها النساء".
وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله قال: "قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" وفى صحيح مسلم عن ابن عباس: "أن النبى اطلع فى النار فرأى أكثر أهلها النساء واطلع فى الجنة فرأى أكثر أهلها الفقراء".
قالوا ويكفى فى فضل الفقر أن كل أحد يتمناه يوم القيامة من الاغنياء قال الامام احمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا اسماعيل يعنى ابن خالد عن نفيع عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله ما من أحد يوم القيامة غنى ولا فقير الا ود أن ما كان أوتى فى الدنيا قوتا قال البخارى يتكلمون فى نفيع وهذا أليق ما قيل فيه
قالوا وقد صرح رسول الله فى تفضيل الفقراء فى غير حديث فمنها ما تقدم من حديث سهل بن سعد وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاويه حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر رضى الله عنه قال قال رسول الله: "يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه فى المسجد قال فنظرت فإذا رجل جالس عليه حلة له قال فقلت هذا قال فقال يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد قال

ص -210- فنظرت فاذا رجل ضعيف عليه أخلاق قال فقلت هذا قال فقال رسول الله والذى نفسى بيده لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الارض من هذا".
قال حدثنا وكيع ووافقه زائد حدثنا الاعمش عن سليمان بن يسار عن خرشة ابن الحر عن أبى ذر فذكره وقال لهذا خير عند الله يوم القيامة من ملء الارض مثل هذا قال الامام أحمد وحدثنا أبو معاوية ووافقه يعلى قال حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر فذكره
قالوا والذى يفصل بيننا فى هذه المسألة ويشفى العليل أن الفقر يوفر أجر صاحبه ومنزلته عند الله والغنى ولو شكر فإن ما ناله فى الدنيا بغناه يحسب عليه من ثوابه يوم القيامة وان تناوله بأحل وجه فقليل الفضل فى الدنيا ناقص من كثير الآخرة وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: "ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وان لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم".
وفى الصحيحين عن خباب بن الارت رضى الله عنه قال: "هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير رضى الله عنه قتل يوم أحد وترك بردة فكنا اذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه فأمرنا رسول الله أن نغطى رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الاذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها" وفى الصحيحين عن قيس بن أبى حازم قال دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال ان أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وذكر الحديث وقال سعيد بن منصور حدثنا معاوية عن الاعمش عن مجاهد عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "ما أوتى عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وان كان عليه كريما".

ص -211- وفى صحيح البخارى عن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: "أوتى عبد الرحمن رضى الله عنه بطعام وكان صائما فقال قتل مصعب بن عمير وهو خير منى وكفن فى بردة ان غطى رأسه بدت رجلاه وان غطى رجلاه بدا رأسه وقتل حمزة رضى الله عنه وهو خير منى فلم يوجد له كفن إلا بردة ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا فى حياتنا الدنيا ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام".
قال أبو سعيد بن الاعرابى وليس عبد الرحمن بن عوف وخباب قالا ذلك دون غيرهما لقد قاله الأكابر من أصحاب رسول الله وكرهوا ما فتح الله عليهم من الدنيا وأشفقوا منه وعلموا أن ما اختاره الله لنبيه كان أفضل وأن ما أخروا له كان أنقص منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأبو عبيدة وعمار بن ياسر وسلمان وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وأبو هاشم بن عتبة وجماعة لم نذكرهم للاختصار رضى الله عنهم
فأما أبو بكر رضى الله عنه فحدثنا ابن ابى الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن ابان الطائى حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد الواحد بن زيد حدثنى سلمان عن مرة عن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال كنا مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه فدعا بشراب فأتى بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى وبكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا وما سكت ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لم يقدروا على مسألته قال ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك فقال كنت مع رسول الله فرأيته يدفع عن نفسه شيئا ولم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذى تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لى فقلت لها اليك عنى ثم رجعت فقالت انك ان أفلت منى فلن يفلت منى من بعدك
وذكر ليث عن ابن سعد عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أن أبا بكر رضى الله عنه قال فى مرضه الذى

ص -212- مات فيه إنى وليت أمركم وانى لست بخيركم وكلكم ورم أنفه من ذلك أن يكون هذا الامر له وذلك لما رأيت الدنيا قد أقبلت وأقبلت ولم تقبل حتى يتخذوا نضائد الحرير وستور الديباج وحتى يألم أحدكم من الاضطجاع على الصوف كما يألم من الاضطجاع على الحسك والسعدان ثم أنتم أول ضال بالناس تصفقون يمينا وشمالا ما هذا الطريق أخطأت انما هو البحر أو الفجر والله لئن يقدم أحدكم فتضرب عنقه فى غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا
وذكر محمد بن عطاء بن خباب قال كنت جالسا مع أبى بكر فرأى طائرا فقال طوبى لك يا طائر تأكل من هذا الشجر ثم تبعر ثم لا تكون شيئا وليس عليك حساب وددت أنى مكانك فقلت له أتقول هذا وأنت صديق رسول الله
وأما عمر رضى الله عنه فإنه لما اتى بكنوز كسرى بكى فقال له عبد الرحمن ابن عوف ما الذى يبكيك يا أمير المؤمنين فوالله ان هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح فقال عمر ان هذا لم يعطه قوم الا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء ودخل عليه أبو سنان الدؤلى وعنده نفر من المهاجرين فأرسل عمر الى سفط أتى به من قلعة بالعراق وكان فيه خاتم فأخذه بعض ولده فأدخله فى فيه فانتزعه عمر منه ثم بكى فقال له من عنده لم تبكى وقد فتح الله لك وأظهرك وأقر عينك فقال سمعت رسول الله يقول: "لا تفتح الدنيا على أحد الا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة وأنا مشفق من ذلك".
قال أبو سعيد وجدت فى كتاب بخط يدى عن أبى داود قال حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد حدثنا يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتى بقلنسوة بغزوة كسرى بين يديه وفى القوم سراقة بن مالك فألقى اليه سوارى كسرى فجعلهما فى يديه فبلغا منكبيه فلما رآهما فى يد سراقة قال الحمد لله سوارا كسرى بن هرمز فى يد سراقة بن مالك بن جعشم

ص -213- أعرابى من بنى مدلج ثم قال اللهم قد علمت أن رسولك قد كان يحب أن يصيب مالا فينفقه فى سبيلك وعلى عبادك فزويت ذلك عنه نظرا منك له واختيارا اللهم انى أعوذ بك أن يكون هذا مكر منك بعمر ثم قال {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}
والمقصود أن سعة الدنيا وبسطها تعجيل من أجل الآخرة وتضييق من سعتها قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهرى عن ابن أبى صغيرة عن جابر بن عبدالله رضى الله عنهما: "قال لما كان يوم أحد أشرف النبى على الشهداء الذين قتلوا يومئذ فقال انى شهيد على هؤلاء فزملوهم بدمائهم" قال معمر وأخبره فيمن سمع الحسن يقول قال النبى: "هؤلاء قد مضوا وقد شهدت عليهم لم يأكلوا من أجورهم شيئا وانكم قد أكلتم من أجوركم وانى لا أدرى ما تحدثون بعدى".
وقال ابن المبارك أخبرنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول: "خرج رسول الله بأصحابه الى بقيع الغرقد فقال السلام عليكم يا أهل القبور لو تعلمون ما نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم ثم أقبل على أصحابه فقال هؤلاء خير منكم فقالوا يا رسول الله اخواننا أسلمنا كما أسلموا وهاجرنا كما هاجروا وجاهدنا كما جاهدوا وأتوا على آجالهم فمضوا فيها وبقينا فى آجالنا فما يجعلهم خيرا منا فقال ان هؤلاء خرجوا من الدنيا ولم يأكلوا من أجورهم شيئا وخرجوا وأنا شهيد عليهم وأنتم قد أكلتم من أجوركم ولا أدرى ما تحدثون بعدى قال فلما سمعها القوم والله عقلوها وانتفعوا بها فقالوا وانا لمحاسبون بما أصبنا من الدنيا بعدهم وانه لمنتقص به من أجورنا فأكلوا طيبا وأنفقوا قصدا وقدموا فضلا".
وقال عبد الله بن أحمد قرأت على ابى هذا الحديث حدثنا اسود بن

ص -214- عامر حدثنا اسرائيل عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قال: "ما أعطى رجل من الدنيا الا نقص من درجته".
قالوا وقد صرح سادات الاغنياء بأنهم ابتلو بالضراء فصبروا وابتلوا بالسراء فلم يبصروا قال ذلك عبد الرحمن وغيره وكان هذا مصداقا لما رواه مصعب بن سعد عن ابيه قال قال رسول الله: "لأنا من فتنة السراء أخوف عليكم من فتنة الضراء أنكم ابتليتم بالضراء فصبرتم وان الدنيا حلوة خضرة".
قالوا وها هنا قضيتان صادقتان بهما يتبين الفضل احداهما أن الاكثرين هم الاقلون وقد تقدم الدليل عليها بما فيه الكفاية
وأما الثانية ففى الصحيحين من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال: "خرجت ليلة من الليالى فإذا رسول الله يمشى وحده ليس معه انسان قال فظننت أنه يكره أن يمشى معه أحد فجعلت أمشى فى ظل القمر فالتفت فرآنى فقال من هذا قلت أبو ذر جعلنى الله فداك قال يا أبا ذر تعال فمشيت معه ساعة فقال ان المكثرين هم المقلون يوم القيامة الا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا" وذكر الحديث
قالوا ولو كان الغنى افضل من الفقر لما حض الله رسوله على الزهد فى الدنيا والاعراض عنها وذم الحرص عليها والرغبة فيها بل كان ينبغى أن يحض عليها وعلى اكتسابها والاكثار منها كما حض على اكتساب الفضائل التى بها كمال العبد من العلم والعمل فلما حض على الزهد فيها والتقلل دل على أن الزاهدين فيها المتقللين منها أفضل الطائفتين وقد أخبر أنها لو ساوت عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وأنها أهون على الله من السخلة الميتة على أهلها وان مثلها فى الآخرة كمثل ما يعلق بأصبع من أدخل أصبعه فى البحر وأنها ملعونة ملعون ما فيها الا

ص -215- ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم وأنها سجن المؤمنين وجنة الكافرين وأمر العبد أن يكون فيها كأنه غريب أو عابر سبيل ويعد نفسه من أهل القبور واذا أصبح فلا ينتظر المساء واذا أمسى فلا ينتظر الصباح ونهى عن اتخاذ ما يرغب فيها ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عليه بالتعس والانتكاس وعدم اقالة العثرة بالانتقاش
وأخبر أنها خضرة حلوة أى تأخذ العيون بخضرتها والقلوب بحلاوتها وأمر باتقائها والحذر منها كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عليها وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين كإفساد الذئبين الضاربين اذا ارسلا فى زريبة غنم أو أشد افسادا وأخبر أنه فى الدنيا كراكب استظل تحت شجرة فى يوم صائف ثم راح وتركها
وهذه في الحقيقة حال سكان الدنيا كلهم ولكن هو شهد هذه الحال وعمى عنها بنو الدنيا ومر بهم وهم يعالجون خصا لهم قد وهى فقال: "ما أرى الأمر ألا أعجل من ذلك" وأمر بستر على بابه فنزع وقال انه يذكرنى الدنيا وأعلم الناس أنه ليس لأحد منهم حق فى سوى بيت يسكنه وثوب يوارى عورته وقوت يقيم صلبه وأخبر أن الميت يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله وأخبر أن للمتخوض فيما شاءت نفسه من مال الله بغير حق النار يوم القيامة وأقسم أنه لا يخاف الفقر على أصحابه وانما يخاف عليهم الدنيا وتنافسهم فيها وإلهائها لهم وأخبر أنه ليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى وأخبر أن حسب ابن آدم من الدنيا لقيمات يقمن صلبه فإن لم يقتصر عليها فثلث بطنه لطعامه وثلثه لشرابه وثلثه لنفسه وفى هذا الحديث الارشاد إلى صحة القلب والبدن والدين والدنيا
وأخبر أن غنى العبد فيها غنى نفسه لا كثرة عرضه وسأل الله أن يجعل رزقه فيها قوتا وغبط من كان رزقه فيها كفافا بعد أن هدى للاسلام وأخبر أن من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وشتت




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.