التسميات والتصنيفات

السبت، 28 مايو 2011

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية( جزء1)

كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الصبور الشكور العلى الكبير السميع البصير العليم القدير الذي شملت قدرته كل مخلوق وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور وأسمعت دعوته لليوم الموعود أصحاب القبور قدر مقادير الخلائق وآجالهم وكتب آثارهم وأعمالهم وقسم بينهم معايشهم وأموالهم وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملا وهو العزيز الغفور القاهر القادر فكل عسير عليه يسير وهو المولى النصير فنعم المولى ونعم النصير يسبح له ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم واليه المصير يعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له أنه جل عن الشبيه والنظير وتعالى عن الشريك والظهير وتقدس عن تعطيل الملحدين كما تنزه عن شبه المخلوقين فليس كمثله شىء وهو السميع البصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من بريته وصفوته من خليقته وآمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أعرف الخلق به وأقومهم بخشيته وأنصحهم لأمته وأصبرهم لحكمه وأشكرهم لنعمه وأقربهم إليه وسيلة وأعلاهم عند منزلة وأعظمهم عنده جاها وأوسعهم عنده شفاعه بعثه إلى الجنة داعيا وللإيمان مناديا وفي مرضاته ساعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا فبلغ رسالات ربه

ص -8- الأصلين العظيمين ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله الله يوم لقائه مع خير الفريقين.
فكذلك وضع هذا الكتاب للتعريف بشدة الحاجة والضرورة إليهما وبيان توقف سعادة الدينا والآخرة عليهما فجاء كتابا جامعا حاويا نافعا فيه من الفوائد ما هو حقيق على أن يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر ممتعا لقاريه صريحا للناظر فيه مسليا للحزين منهضا للمقصرين محرضا للمشمرين مشتملا على نكات حسان من تفسير القرآن وعلى أحاديث نبوية معزوة إلى مظانها وآثار سلفية منسوبة إلى قائلها ومسائل فقهية حسان مقرة بالدليل ودقائق سلوكية على سواء السبيل لا تخفى معرفة ذلك عى من فكر وأحضر ذهنه فان فيه ذكر أقسام الصبر ووجوه الشكر وأنواعه وفصل النزاع في التفضيل بين الغنى الشاكر والفقير الصابر وذكر حقيقة الدنيا وما مثلها الله ورسوله والسلف الصالح به والكلام على سبر هذه الأمثال ومطابقتها لحقيقة الحال وذكر ما يذم من الدنيا ويحمد وما يقرب منها إلى الله ويبعد وكيف يشقى بها من يشقى ويسعد بها من يسعد وغير ذلك من الفوائد التى لا تكاد تظفر بها في كتاب سواه وذلك محض منة من الله على عبده وعطية من بعض عطاياه فهو كتاب يصلح للملوك والأمراء والأغنياء والفقراء والصوفية والفقهاء ينهض بالقاعد إلى المسير ويؤنس السائر في الطريق وينبه السالك على المقصود ومع هذا فهو جهد المقل وقدرة المفلس حذر فيه من الداء وان كان من أهله ووصف فيه الدواء وان لم يصبر على تناوله لظلمه وجهله وهو يرجوا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يغفر له غيه لنفسه

لعبادة المؤمنين فما كان في الكتاب من صواب فمن الله وحده فهو المحمود والمستعان وما كان فيه من خطأ فم مصنفه ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله وهذه بضاعة مؤلفة المرجاة تساق إليك وسلعته تعرض عليك فلقاريه غنمة وعلى مؤلفة غرمه وبنات أفكاره تزف إليك فإن وجدت حرا كريما

ص -9- كان بها أسعد وإلا فهي خود تزف إلى عنين متعد.

وقد جعلته ستة وعشرين بابا وخاتمة:
الباب الأول في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها.
الباب الثاني في حقيقة الصبر وكلام الناس في.
الباب الثالث في بيان أسماء الصبر بالاضافة إلى متعلقة.
الباب الرابع في الفرق بي الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة.
الباب الخامس في أقسام الصبر باعتبار محله.
الباب السادس في أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه.
الباب السابع في بيان أقسامه باعتبار متعلقه.
الباب الثامن في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به.
الباب التاسع في بيان تفاوت درجات الصبر.
الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم.
الباب الحادي عشر في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام.
الباب الثاني عشر في الأسباب التي تعين عل الصبر.
الباب الثالث عشر: في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال.
الباب الرابع عشر: في بيان اشق الصبر على النفوس.
الباب الخامس عشر: في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز.
الباب السادس عشر: في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة.
الباب السابع عشر: في ذكر الآثار الواردة عن الصحابة في فضيلة الصبر.

ص -10- الباب الثامن عشر: في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها.
الباب التاسع عشر في الصبر نصف الإيمان وأن الإيمان نصفان صبر ونصف شكر.
الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر.
الباب الحادي والعشرون في الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين.
الباب الثاني والعشرون: في اختلاف الناس في الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب في ذلك.
الباب الثالث والعشرون: في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الرابع والعشرون: في ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الخامس والعشرون: في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه.
الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور سميته ( عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) والله المسؤول أن يجعله خالصا لوجهه مدنيا من رضاه وأن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه انه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل

ص -11- وصدع بأمره وتحمل في مرضاته ما لم يتحمله بشر سواه وقام لله بالصبر والشكر حتى القيام حتى بلغ رضاه فثبت في مقام الصبر حتى لم يلحقه أحد من الصابرين وترقى في درجة الشكر حتى علا فوق جميع الشاكرين فحمد الله وملائكته ورسله وجيمع المؤمنين ولذلك خص بلواء الحمد دون جميع العالمين فآدم تحت لوائه ومن دون الأنبياء والمرسلين وجعل الحمد فاتحة كتابه الذى أنزله عليه كذلك فيما بلغنا وفي التوارة والإنجيل وجعله آخر دعوى أهل ثوابه الذين دعوى أهل ثوابه الذين هداهم على يديه أمته الحامدين قبل ان يخرجهم إلى الوجود لحمدهم له على السراء والضراء والشدة والرخاء وجعلهم أسق الأمم إلى دار الثواب والجزاء فأقرب الخلق إلى لوائه أكثرهم حمدا لله وذكرا كما أن أعلاهم منزلة أكثرهم صبرا وشكرا فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع المؤمنين عليه كما وحد الله وعرف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فإن الله سبحانه جعل الصبر جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو وجندا لا يهزم وحصنا حصينا لا يهدم ولا يثلم فهو والنصر أخوان شقيقان فالنصر مع الصبر والفرج مع الكرب والعسر مع اليسر وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب واخبره أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين فقال تعالى {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة وفازوا بها بنعمة الباطنة والظاهرة وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}.
وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكدا باليمن فقال تعالى {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} وأخبر أن مع الصبر

والتقوى

ص -12- لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط فقال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}

وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصلاه إلى محل العز والتمكين فقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وعلق الفلاح بالصبر والتقوى فعقل ذلك عنه المؤمنون فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وأخبر عن محبته لأهله وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين فقال تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
وأوصى عبادة بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}
و جعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به الا الصابرون فقال تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها ألا أو لو الصبر المؤمنون فقال تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } وأخبر تعالى أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسىء كأنه ولي حميم فقال {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا

الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وأن هذه الخصلة لا يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم
وأخبر سبحانه مؤكدا بالقسم {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ

ص -13- الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقسم خلقه قسمين أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وخص أهل الميمنة أهل التواصى بالصبر والمرحمة وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييز لهم بهذا الحظ الموفور فقال في أربع آيات من كتابه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وعلق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر وذلك على من يسره عليه يسير فقال {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.

وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور فقال {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وأمر رسوله بالصبر لحكمه وأخبر أن صبره انما هو به وبذلك جميع المصائب تهون فقال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقال {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
والصبر آخيّة المؤمن التى يجول ثم يرجع إليها وساق إيمانه الذى اعتماد له الإ عليها فلا ايمان لمن لا صبر له وان كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه ممن يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما الإ بالصفقة الخاسرة فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى المازل بشكرهم فساروا بين جناحى الصبر والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء واله ذو الفضل العظيم
فصل: ولما

كان الإيمان نصفين نصف صبر ونصف شكر كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الأول في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها

ص -15- الباب الأول: في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها
أصل هذه الكلمة هو المنع والحبس فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما ويقال صبر يصبر صبرا وصبر نفسه قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وقال عنترة
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو اذا نفس الجبان تطلع
يقول حبست نفسا عارفة وهى نفس حر يأنف لا نفس عبد لا أنفه له وقوله ترسو أي تثبت وتسكن إذا خفت نفس الجبان واضطربت ويقال صبرت فلانا إذا حبسته وصبرته بالتشديد إذا حملته على الصبر وفي حديث الذي أمسك رجلا وقتله آخر يقتل القاتل ويصبر الصابر أي يحبس للموت كما حبس من أمسكه للموت وصبرت الرجل إذا قتلته صبرا أي أمسكته للقتل وصبرته أيضا وأصبرته إذا حبسه للحلف ومنه الحديث الصحيح من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عنه معرض ومنه الحديث الذي في القسامة ولا تصبر يمينه حيث تصبر الإيمان والمصبورة اليمين المحلوف عليها وفي الحديث نهى عن المصبورة وهى الشاة والدجاجة ونحوهما تصبر للموت فتربط فترمى حيث تموت.
وفعل هذا الباب صبرت أصبر بالفتح في الماضي والكسر في

ص -16- المستقبل وأما صبرت أصبر بالضم في المستقبل فهو بمعنى الكفالة والصبير الكفيل كأنه حبس نفسه للغرم ومنه قولهم أصبرنى أي جعلني كفيلا وقيل أصل الكلمة من الشدة والقوة ومنه الصبر للدواء المعروف لشدة مرارته وكراهته قال الأصمعى "إذا لقي الرجل الشدة بكمالها قيل لقيها بأصبارها" ومنه الصبر بضم الصاد للأرض ذات الحصب لشدتها وصلابتها ومنه سميت الحرة أم صبار ومنه قولهم وقع القوم في أمر صبور بتشديد الباء أي أمر شديد ومنه صبارة الشتاء بتخفيف الباء وتشديد الراء لشدة برده وقيل مأخوذ من الجمع والضم فالصابر يجمع نفسه ويضمها عن الهلع والجزع ومنه صبرة الطعام وصبارة الحجارة.
والتحقيق أن في الصبر المعاني الثلاثة المنع والشدة والضم ويقال صبر إذا أتى بالصبر وتصبر إذا تكلفه واستدعاه واصطبر إذا اكتسبه وتعمله وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر وصبر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر واسم الفاعل صابر وصبار وصبور ومصابر ومصطبر فمصابر من صابر ومصطبر من اصطبر وصابر من صبر وأما صبار وصبور فمن أوزان المبالغة من الثلاثى كضراب وضروب والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثاني في حقيقة الصبر

الباب الثاني: في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه
قد تقدم بيان معناه لغة وأما حقيقته فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل وهو قوة من قوى النفس التى بها صلاح شأنها وقوام أمرها وسئل عنه الجند بن محمد فقال تجرع المرارة من غير تعبس وقال ذو النون هو التباعد عن المخالفات والسكون عند تجرع غصصى البلية وإظهار الغني مع حلول الفقر بساحات المعيشة وقبل الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب وقيل:

ص -17- "هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى وقال أبو عثمان الصبار "هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره" وقيل الصبر المقام على البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر وصحبة البلاء بالصبر وقال عمرو بن عثمان المكي: "الصبر هو الثبات مع الله وتلقى بلائه بالرحب والدعة" ومعنى هذا انه يتلقى البلاء وبصدر واسع لا يتعلق بالضيق والسخط والشكوى وقال الخواص "الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة" وقال رويم "الصبر ترك الشكوى" فسره يلازمه وقال غيره "الصبر هو الاستعانة بالله" وقال أبو على "الصبر كاسمه" وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه "الصبر مطية لا تكبو" وقال أبو محمد الجريري "الصبر أن لا يفرق بين النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما".
قلت وهذا غير مقدور ولا مأمور به فقد ركب الله الطباع على التفريق بين الحالتين وانما المقدور حبس النفس عن الجزع لا استواء الحالتين عند العبد وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر كما قال النبي في الدعاء المشهور "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لي" ولا يناقض هذا قوله "وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر" فإن هذا بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر وأما قبله فالعافية أوسع له وقال أبو على الدقاق "حد الصبر أن لا يعترض على التقدير" فأما إظهار للبلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قال الله تعالى في قصة أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} مع قوله {مسنى الضر} قلت فسر اللفظ بلازمها.
وأما قوله "على غير وجه الشكوى" فالشكوى نوعان أحدهما الشكوى إلى الله فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} مع قوله {فصبر جميل} وقال أيوب {مسني الضر} مع

ص -18- وصف الله له بالصبر وقال سيد الصابرين صلوات الله وسلامه عليه "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتى... الخ".
وقال موسى صلوات الله وسلامه عليه "اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك".
والنوع الثانى شكوى المبتلى بلسان الحال والمقال فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله فالفرق بين شكواه والشكوى اليه وسنعود لهذه المسألة في باب اجتماع الشكوى والصبر وافتراقهما ان شاء الله تعالى.
وقيل الصبر شجاعة النفس ومن ها هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة وقيل الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب والصبر والجزع ضدان ولهذا يقابل أحدهما بالآخر قال تعالى عن أهل النار: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} والجزع قرين العجز وشقيقه والصبر قرين الكيس ومادته فلو سئل الجزع من أبوك لقال العجز ولو سئل الكيس من أبوك لقال الصبر والنفس مطية العبد التى يسير عليها إلى الجنة أو النار والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطيه فإن لم يكن للمطيه خطام ولا زمام شردت في كل مذهب.
وحفظ من خطب الحجاج "اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله وصرفها بزمامها عن معاصى الله فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه".
قلت والنفس فيها قوتان قوة الإقدام وقوة الإحجام فحقيقة الصبر ان يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه وقوة الإحجام إمساكا عما يضره ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي

ص -19- هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك وأفضل الناس أصبرهم على النوعين فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام ولا يصبر عن نظرة محرمة وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بل هو أضعف شئ عن هذا وأعجزه وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين وأقلهم أصبرهم في الموضعين وقيل "الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة" ومعنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه والحرب قائمة بينهما وهو سجال ومحرك هذا الحرب قلب العبد والصبر والشجاعة والثبات

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثالث في بيان أسماء الصبر

الباب الثالث: في بيان أسماء الصبر بالإضافة إلى متعلقه
لما كان الصبر المحمود هو الصبر النفساني الاختياري عن إجابة داعي الهوى المذموم كانت مراتبه وأسماؤه بحسب متعلقه فإنه ان كان صبرا عن شهوة الفرج المحرمة سمي عفة وضدها الفجور والزنا والعهر وان كان عن شهوة البطن وعدم التسرع إلى الطعام أو تناول مالا يجمل منه سمي شرف نفس وشبع نفس وسمي ضده شرها ودناءة ووضاعة نفس وان كان عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمي كتمان سر وضده إذاعة وإفشاء أو تهمة أو فحشاء أو سبا أو كذبا أو قذفا وان كان عن فضول العيش سمي زهدا وضده حرصا وان كان على قدر يكفي من الدنيا سمي قناعة وضدها الحرص أيضا وان كان عن إجابة داعي الغضب سمي حلما وضده تسرعا وان كان عن إجابة داعي العجلة سمي وقارا وثباتا وضده طيشا وخفة وان كان عن إجابة داعي الفرار والهرب سمي شجاعة وضده جبنا وخورا وان كان عن إجابة داعي الانتقام سمي

ص -20- عفوا وصفحا وضده انتقاما وعقوبة وان كان عن إجابة داعي الإمساك والبخل سمي جودا وضده بخلا وان كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي صوما وان كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمي كيسا وان كان عن إجابة داعي إلقاء الكيل على الناس وعدم حمل كلهم سمي مروءة فله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه والاسم الجامع لذلك كله الصبر وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها وهكذا يسمى عدلا إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين وضده الظلم ويسمى سماحة إذا تعلق ببذل الواجب والمستحب بالرضا والاختيار وعلى هذا جميع منازل الدين

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الرابع في الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة

الباب الرابع: في الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة
الفرق بين هذه الأسماء بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره فإن حبس نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن ان كان خلقا له وملكه سمي صبرا وان كان بتكلف وتمرن وتجرع لمرارته سمي تصبرا كما يدل عليه هذا البناء لغة فإنه موضوع للتكلف كالتحلم والتشجع والتكرم والتحمل ونحوها وإذا تكلفه العبد واستدعاه صار سجية له كما في الحديث عن النبي أنه قال "ومن يتصبر يصبره الله" وكذلك العبد يتكلف التعفف حتى يصير التعفف له سجية كذلك سائر الأخلاق وهي مسألة اختلف فيها الناس هل يمكن اكتساب واحد منها أو التخلق لا يصير خلقا أبدا كما قال الشاعر:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
وقال آخر
يا أيها المتحلى غير شيمته ان التخلق يأتى دونه الخلق
فقبح التطبع شيمة المطبوع

ص -21- قالوا وقد فرغ الله سبحانه من الخلق والخلق والرزق والأجل وقالت طائفة أخرى بل يمكن اكتساب الخلق كما يكتسب العقل والحلم والجود والسخاء والشجاعة والوجود شاهد بذلك قالوا والمزاولات تعطى الملكات ومعنى هذا أن من زاول شيئا واعتاده وتمرن عليه صار ملكه له وسجيه وطبيعه قالوا والعوائد تنقل الطبائع فلا يزال العبد يتكلف التصبر حتى يصير الصبر له سجية كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات حتى تصير له أخلاقا بمنزلة الطبائع قالوا وقد جعل الله سبحانه في الإنسان قوة القبول والتعلم فنقل الطبائع عن مقتضياتها غير مستحيل غير أن هذا الانتقال قد يكون ضعيفا فيعود العبد إلى طبعه بأدنى باعث وقد يكون قويا ولكن لم ينقل الطبع فقد يعود إلى طبعه إذا قوى الباعث واشتد وقد يستحكم الانتقال بحيث يستحدث صاحبه طبعا ثانيا فهذا لا يكاد يعود إلى طبعه الذى انتقل عنه.
وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر فإنه افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب فالتصبر مبدأ الاصطبار كما أن التكسب مقدمة الاكتساب فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطبارا
وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر فإنها مفاعلة تستدعى وقوعها بين اثنين كالمشاتمة والمضاربة قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهى حاله في الصبر مع خصمه والمرابطة وهى الثبات واللزوم والاقامة على الصبر والمصابرة فقد يصبر العبد ولا يصابر وقد يصابر ولا يرابط وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى وأن الفلاح موقوف عليها فقال {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن

مملكته

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الخامس في أقسام الصبر باعتبار محله

ص -22- الباب الخامس: في انقسامه باعتبار محلّه
الصبر ضربان: ضرب بدني وضرب نفساني وكل منهما نوعان اختياري واضطراري فهذه أربعة أقسام:
الأول: البدني الاختياري، كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختيارا وإرادة.
الثاني: البدني الاضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض والجراحات والبرد والحر وغير ذلك.
الثالث: النفساني الاختياري كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعا ولا عقلا.
الرابع: النفساني الاضطراري كصبر النفس عن محبوبها قهرا إذا حيل بينها وبينه.
فإذا عرفت هذه الأقسام فهي مختصة بنوع الإنسان دون البهائم ومشاركة للبهائم في نوعين منها وهما صبر البدن والنفس الاضطراريين وقد يكون بعضها أقوى صبرا من الإنسان وإنما يتميز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين وكثير من الناس تكون قوة صبره في النوع الذى يشارك فيه البهائم لا في النوع الذى يخص الإنسان فيعد صابرا وليس من الصابرين.
فإن قيل هل يشارك الجن والإنس في هذا الصبر قيل نعم هذا من لوازم التكليف وهو مظنة الأمر والنهى والجن مكلفون بالصبر على الأوامر والصبر عن النواهى كما كلفنا نحن بذلك فإن قيل فهل هم مكلفون على الوجه الذى كلفنا نحن به أم على وجه آخر قيل ما كان من لوازم النفوس كالحب والبغض والإيمان والتصديق والموالاة والمعاداة فنحن وهم مستوون فيه وما كان من لوازم الأبدان كغسل الجنابة وغسل

ص -23- الأعضاء في الوضوء والاستنجاء والختان وغسل الحيض ونحو ذلك فلا تجب مساواتهم لنا في تكلفه وان تعلق ذلك بهم على وجه يناسب خلقتهم وحيائهم.
فإن قيل فهل تشاركنا الملائكة في شئ من أقسام الصبر قيل الملائكة لم يبتلوا بهوى يحارب عقولهم ومعارفهم بل العبادة والطاعة لهم كالنفس لنا فلا يتصور في حقهم الصبر الذي حقيقته ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى وان كان لهم صبر يليق بهم وهو ثباتهم وإقامتهم على ما خلقوا له من غير منازعة هوى أو شهوة أو طبع.
فالإنسان منا إذا غلب صبره باعث الهوى والشهوة التحق بالملائكة وان غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالشياطين وان غلب باعث طبعه من الأكل والشرب والجماع صبره التحق بالبهائم قال قتادة خلق الله سبحانه الملائكة عقولا بلا شهوات وخلق البهائم شهوات بلا عقول وخلق الإنسان وجعل له عقلا وشهوة فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم ولما خلق الإنسان في ابتداء أمره ناقصا لم يخلق فيه الإ شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه فصبره في هذه الحال بمنزلة صبر البهائم وليس له قبل تمييزه قوة صبر الاختيار فإذا ظهرت فيه شهوة اللعب استعد لقوة الصبر الاختياري على ضعفها فيه فإذا تعلقت به شهوة النكاح ظهرت فيه قوة الصبر وإذا تحرك سلطان العقل وقوى استعان بجيش الصبر ولكن هذا السلطان وجنده لا يستقلان بمقاومة سلطان الهوى وجنده فإن إشراق نور الهداية يلوح عليه عند أول سن التمييز وينمو على التدريج إلى سن البلوغ كما يبدو خيط الفجر ثم يتزايد ظهوره وكلها هداية قاصرة غير مستقلة بإدراك مصالح الآخرة ومضارها بل غايتها تعلقها ببعض مصالح الدنيا ومفاسدها فإذا طلعت عليه شمس النبوة والرسالة وأشرق عليه نورها رأى في ضوئها تفاصيل مصالح الدارين ومفاسدهما فتلمح العواقب وليس لأمة الحرب وأخذ أنواع

ص -24- الأسلحه ووقع في حومة الحرب بين داعي الطبع والهوى وداعي العقل والهدى والمنصور من نصره الله والمخذول من خذله ولا تضع الحرب أوزارها حتى ينزل في إحدى المنزلتين ويصير إلى ما خلق له من الدارين.

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب السادس في أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه

الباب السادس: بيان أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه.
وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين فيرد جيش الهوى مغلولا وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر والواصلون إلى هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة وهم الذين قالوا {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} وهم الذين تقول لهم الملائكة عند الموت {أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وهم الذين نالوا معية الله مع الصابرين وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده وخصهم بهدايته دون من عداهم.
الحالة الثانية ان تكون القوة والغلبة لداعي الهوى فيسقط منازعه باعث الدين بالكلية فيستسلم البائس للشيطان وجنده فيقودونه حيث شاءوا وله معهم حالتان إحداهما ان يكون من جندهم وأتباعهم وهذه حال العاجز الضعيف الثانية ان يصير الشيطان من جنده وهذه حال الفاجر القوي المتسلط والمبتدع الداعية المتبوع كما قال القائل:
وكنت امرءا من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فيصير إبليس وجنده من أعوانه وأتباعه وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وإنما صاروا إلى هذه الحال لما أفلسوا من الصبر وهذه الحالة هي حالة جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء

ص -25- القضاء وشماتة الأعداء وجند أصحابها المكر والخداع والأماني الباطلة والغرور والتسويف بالعمل وطول الأمل وإيثار العاجل على الآجل وهي التي قال في صاحبها النبي:"العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" وأصحاب هذه الحال أنواع شتى فمنهم المحارب لله ورسوله الساعي في أبطال ما جاء به الرسول يصد عن سبيل الله ويبغيها جهده عوجا وتحريفا ليصد الناس عنها ومنهم المعرض عما جاء به الرسول المقبل على دنياه وشهواتها فقط ومنهم المنافق ذو الوجهين الذي يأكل بالكفر والإسلام ومنهم الماجن المتلاعب الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب ومنهم من إذا وعظ قال واشواقاه إلى التوبة ولكنها قد تعذرت على فلا مطمع لي فيها ومنهم من يقول ليس الله محتاجا إلى صلاتي وصيامي وأنا لا أنجو بعملي والله غفور رحيم ومنهم من يقول ترك المعاصي استهانة بعفو الله ومغفرته.
فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
ومهم من يقول ماذا تقع طاعتي في جنب ما عملت وما قد ينفع الغريق خلاص أصبعه وباقي بدنه غريق ومنهم من يقول سوف أتوب وإذا جاء الموت ونزل بساحتي تبت وقبلت توبتي إلى غير ذلك من أصناف المغترين الذين صارت عقولهم في أيدي شهواتهم فلا يستعمل أحدهم عقله إلا في دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته فعقله مع الشيطان كالأسير في يد الكافر يستعمله في رعاية الخنازير وعصر الخمر وحمل الصليب وهو بقهره عقله وتسليمه إلى أعدائه عند الله بمنزلة رجل قهر مسلما وباعه للكفار وسلمه إليهم وجعله أسيرا عندهم.
فصل: وهاهنا نكتة بديعة يجب التفطن لها وينبغي إخلاء القلب لتأملها وهو أن هذا المغرور لما أذل سلطان الله الذي أعزه به وشرفه ورفع به قدره وسلمه في يد أبغض أعدائه إليه وجعله أسيرا له تحت قهره وتصرفه وسلطانه سلط الله عليه من كان حقه هو أن يتسلط عليه فجعله

ص -26- تحت قهره وتصرفه وسلطانه يسخره حيث شاء ويسخر منه ويسخر منه جنده وحزبه فكما أذل سلطان الله وسلمه إلى عدوه أذله الله وسلط عليه عدوه الذي أمره أن يتسلط هو عليه ويذله ويقهره فصار بمنزلة من سلم نفسه إلى أعدى عدو له يسومه سوء العذاب وقد كان بصدد أن يستأسره ويقهره ويشفي غيظه منه فلما ترك مقاومته ومحاربته واستسلم له سلط عليه عقوبة له قال الله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.
فإن قيل فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} وقال تعالى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}
قيل: السلطان الذي أثبته له عليهم غير الذي نفاه من وجهين أحدهما أن السلطان الثابت هو سلطان التمكن منهم وتلاعبه بهم وسوقه اياهم كيف أراد بتمكينهم اياه من ذلك بطاعته وموالاته والسلطان الذى نفاه سلطان الحجة فلم يكن لابليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان الثانى أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ولكن هم سلطوه على انفسهم بطاعته ودخولهم في جملة جنده وحزبه فلم يتسلطن عليهم بقوته فإن كيده ضعيف وانما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم

والمقصود أن من قصد أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه كان من عقوبته أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه.
فصل: الحالة الثالثة أن يكون الحرب سجالا ودولا بين الجندين

ص -27- فتارة له وتارة عليه وتكثر نوبات الانتصار وتقل وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.

وتكون الحال يوم القيامة موازنة لهذه الأحوال الثلاث سواء بسواء فمن الناس من يدخل الجنة ولا يدخل النار ومنهم من يدخل النار ولا يدخل الجنة ومنهم من يدخل النار ثم يدخل الجنة وهذه الأحوال الثلاث هى أحوال الناس في الصحة والمرض فمن الناس من تقاوم قوته داءه فتقهره ويكون السلطان للقوة ومنهم من يقهر داؤه قوته ويكون السلطان للداء ومنهم من الحرب بين دائه وقوته نوبا فهو متردد بين الصحة والمرض.
فصل: ومن الناس من يصبر بجهد ومشقة ومنهم من يصبر بأدنى حمل على النفس ومثال الاول كرجل صارع رجلا شديدا فلا يقهره إلا بتعب ومشقة والثانى كمن صارع رجلا ضعيفا فإنه يصرعه بغير مشقة فهكذا تكون المصارعة بين جنود الرحمن وجنود الشيطان ومن صرع جند الشيطان صرع الشيطان.
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه "لقى رجلا من الانس رجلا من الجن فصارعه فصرعه الانسى فقال مالى أراك ضئيلا فقال انى من بينهم لضليع فقالوا أهو عمر بن الخطاب" فقال "من ترونه غير عمر!".
وقال بعض الصحابة ان المؤمن ينضى شيطانه كما ينضى أحدكم بعيره في السفر وذكر ابن أبى الدنيا عن بعض السلف أن شيطانا لقى شيطانا فقال ما لى أراك شخيبا فقال انى مع رجل ان أكل ذكر اسم الله فلا آكل معه وان شرب ذكر اسم الله فلا أشرب معه وان دخل بيته ذكر اسم الله فأبيت خارج الدار فقال الآخر لكنى مع رجل أن أكل لم يسم الله فأكل أنا وهو جميعا وان شرب لم يسم الله فأشرب معه وان

ص -28- دخل داره لم يسم الله فأدخل معه وان جامع امرأته لم يسم الله فأجامعها فمن اعتاد الصبر هابه عدوه ومن عز عليه الصبر طمع فيه عدوه وأوشك أن ينال منه غرضه

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب السابع في بيان أقسامه باعتبار متعلقه

الباب السابع: في ذكر أقسامه باعتبار متعلقه
الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها وصبر على الأقدار والاقضية حتى لا يتسخطها وهذه الأنواع الثلاثة هي التى قال فيها الشيخ عبد القادر في فتوح الغيب: "لا بد للعبد من أمر يفعله ونهي يجتنبه وقدر يصبر عليه"21.
وهذا الكلام بطرفين طرف من جهة الرب تعالى وطرف من جهة العبد.
فأما الذي من جهة الرب فهو أن الله تعالى له على عبده حكمان حكم شرعي ديني وحكم كوني قدري فالشرعي متعلق بأمره والكوني متعلق بخلقه وهو سبحانه له الخلق والأمر وحكمه الديني الطلبي نوعان بحسب المطلوب فإن المطلوب ان كان محبوبا له فالمطلوب فعله إما واجبا وإما مستحبا ولا يتم ذلك إلا بالصبر وان كان مبغوضا له فالمطلوب تركه إما تحريما وإما كراهة وذلك أيضا موقوف على الصبر فهذا حكمه الدينى الشرعى واما حكمه الكونى فهو ما يقضيه ويقدره على العبد من المصائب التى لا صنع له فيها ففرضه الصبر عليها وفي وجوب الرضا بها قولان للعلماء وهما وجهان في مذهب أحمد أصحهما أنه مستحب فمرجع الدين كله إلى هذه القواعد الثلاث فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وأما الذي من جهة العبد فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفا ولا تسقط عنه هذه الثلاث حتى يسقط عنه التكليف فقيام عبودية

ص -29- الأمر والنهى والقدر على ساق الصبر لا تستوي إلا عليه كما لا تستوي السنبلة إلا على ساقها.
فالصبر متعلق بالمأمور والمحظور والمقدور بالخلق والأمر والشيخ دائما يحوم حول هذه الأصول الثلاثة كقوله يا بنى افعل المأمور وأجتنب المحظور واصبر على المقدور وهذه الثلاثة هى التى أوصى بها لقمان لابنه في قوله :{يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} فأمره بالمعروف يتناول فعله بنفسه وأمر غيره به وكذلك نهيه عن المنكر أما من حيث اطلاق اللفظ فتدخل نفسه فيه وغيره وأما من حيث اللزوم الشرعى فإن الآمر الناهى لا يستقيم له أمره ونهيه حتى يكون أول مأمور ومنهى وذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في قوله {انما يتذكر أولو الالباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار}.
فجمع لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه وذلك يعم أمره ونهيه الذي عهده إليهم بينهم وبينه وبينهم وبين خلقه ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه ثم وصفهم بأنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه وحق الله وحق خلقه فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له والقيام بطاعته والإنابة إليه والتوكل عليه وحبه وخوفه ورجائه والتوبة إليه والاستكانة له والخضوع والذلة له والاعتراف له بنعمته وشكره عليها والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها فهذه هي الوصلة بين الرب والعبد وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل وأمر أن نوصل ما بيننا وبين رسوله بالإيمان به

ص -30- وتصديقه وتحكيمه في كل شيء والرضا لحكمه والتسليم له وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة فأنه أمر بيد الوالدين وصلة الأرحام وذلك مما أمر به أن يوصل وأمر ان نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأرقاء بأن نطعمهم مما نأكل ونكسوهم مما نكتسي ولا نكلفهم فوق طاقتهم وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه وحفظه في نفسه وماله وأهله بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر وأن نصل ما بيننا وبين عموم الناس بأن نأتى اليهم بما نحب أن يأتوه الينا وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحى منهم كما يستحى الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه.
فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة وهو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب ولا يمكن لأحد قط أن يصل ما أمر الله بوصله الا بخشيته ومتى ترحلت الخشية من القلب انقطعت هذه الوصل ثم جمع لهم سبحانه ذلك كله في أصل واحد هو أخية ذلك وقاعدته ومداره الذى يدور عليه وهو الصبر فقال والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم فلم يكتف منهم بمجرد الصبر حتى يكون خالصا لوجهه.
ثم ذكر لهم ما يعيينهم على الصبر وهى الصلاة فقال وأقاموا الصلاة وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة وهما الصبر والصلاة فقال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

ص -31- ثم ذكر سبحانه احسانهم إلى غيرهم بالإنفاق عليهم سرا وعلانية فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة وإلى غيرهم بالإنفاق عليهم ثم ذكر حالهم اذا جهل عليهم وأوذوا انهم لا يقابلون ذلك بمثله بل يدرأون بالحسنة السيئة فيحسنون إلى من يسيء اليهم فقال ويدرأون بالحسنة السيئة وقد فسر هذا الدرء بأنهم يدفعون بالذنب الحسنة بعده كما قال تعالى ان الحسنات يذهبن السيئات وقال النبي اتبع السيئة الحسنة تمحها والتحقيق أن الآية تعم النوعين.
والمقصود أن هذه الايات تناولت مقامات الاسلام والايمان كلها اشتملت على فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وقد ذكر تعالى هذه الاصول الثلاثة في قوله: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} وقوله {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر} وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر اشتمل على الأمور الثلاثة فإن حقيقة التقوى فعل المأمور وترك المحظور

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب الثامن في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به

الباب الثامن: في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به.
وهو ينقسم بهذا الاعتبار إلى واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح فالصبر الواجب ثلاثة أنواع: أحدها الصبر عن المحرمات والثانى الصبر على أداء الواجبات والثالث الصبر على المصائب التى لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب فهو الصبر عن المكروهات والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجانى بمثل فعله.
وأما المحظور فأنواع أحدها الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت

ص -32- وكذلك الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام إذا خاف بتركه الموت قال طاوس وبعده الامام أحمد من اضطر إلى أكل الميتة والدم فلم يأكل فمات دخل النار.
فإن قيل فما تقولون في الصبر عن المسألة في هذه الحال.
قيل اختلف في حكمه هل هو حرام أو مباح على قولين هما لأصحاب أحمد وظاهر نصه ان الصبر عن المسألة جائز فإنه قيل له إذا خاف أن لم يسأل أن يموت فقال لا يموت يأتيه الله برزقه أو كما قال فأحمد منع وقوع المسألة ومتى علم الله ضرورته وصدقه في ترك المسألة قيض الله له رزقا
وقال كثير من أصحاب أحمد والشافعي يجب عليه المسألة وان لم يسأل كان عاصيا لأن المسألة تتضمن نجاته من التلف.
فصل ومن الصبر المحظور صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سبع أو حيات أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين فإنه مباح له بل يستحب كما دلت عليه النصوص الكثيرة وقد سئل النبي عن هذه المسألة بعينها فقال: "كن كخير ابني آدم" وفي لفظ "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل" وفي لفظ "دعه يبوء بإثمه وإثمك" وفي لفظ آخر "فإن بهرك شعاع السيف فضع يدك على وجهك" وقد حكى الله استسلام خير ابنى آدم وأثنى عليه بذلك وهذا بخلاف قتل الكافر فإنه يجب عليه الدفع عن نفسه لأن من مقصود الجهاد أن يدفع عن نفسه وعن المسلمين وأما قتال اللصوص فهل يجب فيه الدفع أو يجوز فيه الاستسلام فان كان عن معصوم غيره وجب وإن كان عن نفسه فظاهر نصوصه أنه لا يجب الدفع وأوجبه بعضهم ولا يجوز الصبر على من قصده أو حرمته بالفاحشة.

ص -33- فصل: وأما الصبر المكروه فله أمثلة أحدها أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه الثاني صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به الثالث صبره على المكروه الرابع صبره عن فعل المستحب.
فصل: وأما الصبر المباح فهو الصبر عن كل فعل مستوى الطرفين خير بين فعله وتركه والصبر عليه.
وبالجملة فالصبر على الواجب واجب وعن الواجب حرام والصبر عن الحرام واجب وعليه حرام والصبر على المستحب مستحب وعنه مكروه والصبر عن المكروه مستحب وعليه مكروه والصبر عن المباح مباح والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب التاسع في بيان تفاوت درجات الصبر

الباب التاسع: في بيان تفاوت درجات الصبر
الصبر كما تقدم نوعان: اختياري واضطراري والاختياري أكمل من الاضطراري فإن الاضطرارى يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختيارى ولذلك كان صبر يوسف الصديق عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله في ذلك من الحبس والمكروه أعظم من صبره على ما ناله من اخوته لما ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبيه وباعوه بيع العبد ومن الصبر الثانى انشاء الله سبحانه له ما أنشأه من العز والرفعة والملك والتمكين في الأرض وكذلك صبر الخليل عليه السلام والكليم وصبر نوح وصبر المسيح وصبر خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم عليهم الصلاة والسلام كان صبرا على الدعوة إلى الله ومجاهدة أعداء الله ولهذا سماهم الله أولى العزم وأمر رسوله أن يصبر صبرهم فقال {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وأولو العزم هم المذكورون في قوله تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا

ص -34- وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} وفي قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} كذلك قال ابن عباس وغيره من السلف ونهاه سبحانه أن يتشبه بصاحب الحوت حيث لم يصبر صبر أولى العزم فقال {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}.
وها هنا سؤال نافع وهو أن يقال ما العامل في الظرف وهو قوله {إِذْ نَادَى} ولا يمكن أن يكون الفعل المنهى عنه اذ يصير المعنى لا تكن مثله في ندائه وقد أثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به فقال {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وفي الترمذى وغيره عن النبي أنه قال: "دعوة أخى ذى النون اذ دعا بها في بطن الحوت ما دعا بها مكروب الا فرج الله عنه لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين" فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما نهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما ينهى عن التشبه به في السبب الذى أفضى به إلى هذه المناداة وهى مغاضبته التى أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم والكظيم والكاظم الذى قد امتلأ غيظا وغضبا وهما وحزنا وكظم عليه فلم يخرجه.
فإن قيل وعلى ذلك فما العامل في الظرف قيل ما في صاحب الحوت من معنى الفعل
فإن قيل فالسؤال بعد قائم فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهى فإن كان المعنى لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال أو هذا الوقت كان نهيا عن تلك الحالة.
قيل لما كان

نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت فنهى أن يتشبه

ص -35- به في الحال التى أفضت به إلى صحبته الحوت والنداء وهى ضعف العزيمة والصبر لحكمه تعالى ولم يقل تعالى ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت فنادى بل طوى القصة واختصرها وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر واكتفي بغايتها وما انتهت اليه.

فان قيل فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه أى لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى عليه قد تلقاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر لا نداء كظيم قيل هذا المعنى وان كان صحيحا الا أن النهى لم يقع عن التشبه به في مجرده وانما نهى عن التشبه به في الحال التى حملته على ذهابه مغاضبا حتى سجن في بطن الحوت ويدل عليه قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك} ثم قال: {ولا تكن كصاحب الحوت} أى في ضعف صبره لحكم ربه فان الحالة التى نهى عنها هى ضد الحالة التى أمر بها.
فإن قيل فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكونى القدرى الذى يقدره عليه ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر عليه بل نادى وهو كظيم لكشفه فلم يصبر على احتماله والسكون تحته.
قيل منع من ذلك أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم اياه كشف ما بهم من الضر وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له فنجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثنى عليه ويمدحه به وكذلك أثنى على أيوب بقوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وعلى يعقوب بقوله {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وعلى موسى بقوله {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله: "اللهم أشكو اليك ضعف قوتى وقلة حيلتى" الحديث فالشكوى

إليه

ص -36- سبحانه لا تنافي الصبر الجزيل بل اعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة وجعل الشكوى إليه وحده هو الصبر والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وقد ذم سبحانه من لم يتضرع اليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع اليه وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به اليه وقيل لبعضهم كيف تشتكى اليه ما ليس يخفي عليه فقال ربى يرضى ذل العبد اليه.

والمقصود أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولى العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا وهذا أكمل الصبر ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإن قيل: أى انواع الصبر الثلاثة أكمل الصبر على المأمور أم الصبر عن المحظور أم الصبر على المقدور؟
قيل: الصبر المتعلق بالتكليف وهو الأمر والنهى أفضل من الصبر على مجرد القدر فان هذا الصبر يأتى به البر الفاجر والمؤمن والكافر فلا بد لكل أحد من الصبر على القدر اختيارا أو اضطرارا.
وأما الصبر على الاوامر والنواهى فصبر أتباع الرسل وأعظمهم اتباعا أصبرهم في ذلك وكل صبر في محله وموضعه أفضل فالصبر عن الحرام في محله أفضل وعلى الطاعة في محلها أفضل.
فإن قيل أى الصبرين أحب إلى الله؟ صبر من يصبر على أوامره أم صبر من يصبر عن محارمه؟
قيل هذا موضع تنازع فيه الناس فقالت طائفة الصبر عن

ص -37- المخالفات أفضل، لأنه أشق وأصعب فإن أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن المخالفات إلا الصديقون قالوا ولأن الصبر عن المحرمات صبر على مخالفة هوى النفس وهو أشق شىء وأفضله قالوا ولأن ترك المحبوب الذى تحبه النفوس دليل على أن من ترك لأجله أحب اليه من نفسه وهواه بخلاف فعل ما يحبه المحبوب فإنه لا يستلزم ذلك قالوا وأيضا فالمروءة والفتوة كلها في هذا الصبر.
قال الإمام أحمد: "الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى" فمروءة العبد وفتوته بحسب هذا الصبر قالوا وليس العجب ممن يصبر على الأوامر فإن أكثرها محبوبات للنفوس السليمة لما فيها من العدل والإحسان والإخلاص والبر وهذه محاب للنفوس الفاضلة الزكية بل العجب ممن يصبر عن المناهي التي أكثرها محاب للنفوس فيترك المحبوب العاجل في هذه الدار للمحبوب الآجل في دار أخرى والنفس موكلة بحب العاجل فصبرها عنه مخالف لطبعها.
قالوا: ولأن المناهى لها أربعة دواع تدعو اليها نفس الإنسان وشيطانه وهواه ودنياه فلا يتركها حتى يجاهد هذه الأربعة وذلك أشق شيء على النفوس وأمره قالوا فالمناهى من باب حمية النفوس عن مشتهياتها ولذاتها والحمية مع قيام داعى التناول وقوته من أصعب شيء وأشقه قالو أو لذلك كان باب قربان النهى مسدودا كله وباب الامر انما يفعل منه المستطاع كما قال النبي: "اذا أمرتكم بأمر فاءتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" فدل على ان باب المنهيات أضيق من باب المأمورات وانه لم يرخص في ارتكاب شيء منه كما رخص في ترك بعض المأمورات للعجز والعذر قالوا ولهذا كانت عامة العقوبات من الحدود وغيرها على ارتكاب المنهيات بخلاف ترك المأمور فإن الله سبحانه لم يرتب عليه حدا معينا فأعظم المأمورات الصلاة وقد اختلف العلماء هل على تاركها حد أم لا؟

ص -38- فصل: فهذا بعض ما احتجت به الطائفة وقالت طائفة أخرى بل الصبر على فعل المأمور أفضل وأجل من الصبر على ترك المحظور لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الأمرين أفضل وأعلى وبيان ذلك من وجوه
أحدها: أن فعل المأمور مقصود لذاته فهو مشروع شرع المقاصد فإن معرفة الله وتوحيده وعبوديته وحده والإنابة إليه والتوكل عليه وإخلاص العمل له ومحبته والرضا به والقيام في خدمته هو الغاية التى خلق لها الخلق وثبت بها الأمر وذلك أمر مقصود لنفسه والمنهيات انما نهى عنها لأنها صادة عن ذلك أو شاغلة عنه أو مفوتة لكماله ولذلك كانت درجاتها في النهى بحسب صدها عن المأمور وتعويقها عنه وتفويتها لكماله فهي مقصودة لغيرها والمأمور مقصود لنفسه فلو لم يصد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التواد والتحاب الذى وضعه الله بين عباده لما حرمه وكذلك لو لم يحل بين العبد وبين عقله الذى به يعرف الله ويعبده ويحمده ويمجده ويصلى له ويسجد لما حرمه وكذلك سائر ما حرمه انما حرمه لأنه يصد عما يحبه ويرضاه ويحول بين العبد وبين إكماله.
الثاني ان المأمورات متعلقة بمعرفة الله وتوحيده وعبادته وذكره وشكره ومحبته والتوكل عليه والإنابة اليه فمتعلقها ذات الرب تعالى وأسماؤه وصفاته ومتعلق المنهيات ذوات الاشياء المنهى عنها والفرق من اعظم ما يكون.
الثالث: ان ضرورة العبد وحاجته إلى فعل المأمور أعظم من ضرورته إلى ترك المحظور فإنه ليس إلى شىء أحوج واشد فاقة منه إلى معرفة ربه وتوحيده واخلاص العمل له وافراده بالعبودية والمحبة والطاعة وضرورته إلى ذلك أعظم من ضرورته إلى نفسه ونفسه وحياته أعظم من ضرورته إلى غذائه الذى به قوام بدنه بل هذا لقلبه وروحه كالحياه والغذاء لبدنه وهو انما هو انسان بروحه وقلبه لا ببدنه وقالبه كما قيل:

ص -39- يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته فأنت بالقلب لابالجسم انسان

وترك المنهى انما شرع له تحصيلا لهذا الأمر الذى هو ضرورى له وما أحوجه وافقره اليه.
الرابع: ان ترك المنهى من باب الحمية وفعل المأمور من باب حفظ القوة والغذاء الذى لاتقوم البنية بدونه ولا تحصل الحياة الا به فقد يعيش الإنسان مع تركه الحميه وان كان بدنه عليلا أشد ما يكون علة ولا يعيش بدون القوة والغذاء الذى يحفظها فهذا مثل المأمورات والمنهيات.
الخامس: ان الذنوب كلها ترجع إلى هذين الأصلين ترك المأمور وفعل المحظور ولو فعل العبد المحظور كله من أوله إلى آخره حتى أتى من مأمور الايمان بأدنى أدنى مثقال ذرة منه نجا بذلك من الخلود في النار ولو ترك كل محظور ولم يأت بمأمور الإيمان لكان مخلدا في السعير فأين شيء مثاقيل الذر منه تخرج من النار إلى شيء وزن الجبال منه أضعافا مضاعفة لا تقتضي الخلود في النار مع وجود ذلك المأمور أو أدنى شىء منه.
السادس: ان جميع المحظورات من أولها إلى آخرها تسقط بمأمور التوبة ولا تسقط المأمورات كلها معصية المخالفة الا بالشرك أو الوفاة عليه ولا خلاف بين الأمة ان كل محظور يسقط بالتوبة منه واختلفوا هل تسقط الطاعة بالمعصية وفي المسألة نزاع وتفاصيل ليس هذا موضعه.
السابع: ان ذنب الاب كان يفعل المحظور فكان عاقبته أن اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وذنب ابليس كان بترك المأمور فكان عاقبته ما ذكر الله سبحانه وجعل هذا عبرة للذرية إلى يوم القيامة.
الثامن ان المأمور محبوب إلى الرب والمنهى مكروه له وهو سبحانه انما قدره وقضاه لأنه ذريعة إلى حصول محبوبه من عبده ومن نفسه تعالى

ص -40- أما من عبده فالتوبة والاستغفار والخضوع والذل والانكسار وغير ذلك وأما من نفسه فبالمغفرة والتوبة على العبد والعفو عنه والصفح والحلم والتجاوز عن حقه وغير ذلك مما هو أحب اليه تعالى من فواته بعدم تقدير ما يكرهه واذا كان انما قدر ما يكرهه لأنه يكون وسيلة إلى ما يحبه علم أن محبوبه هو الغاية ففوات محبوبه أبغض اليه وأكره له من حصول مبغوضه بل اذا ترتب على حصول مبغوضه ما يحبه من وجه آخر كان المبغوض مرادا له ارادة الوسائل كما كان النهى عنه وكراهته لذلك وأما المحبوب فمراده ارادة المقاصد كما تقدم فهو سبحانه انما خلق الخلق لاجل محبوبه ومأموره وهو عبادته وحده كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} وقدر مكروهه ومبغوضه تكميلا لهذه الغاية التى خلق خلقه لأجلها فانه ترتب عليه من المأمورات ما لم يكن يحصل بدون تقديره كالجهاد الذى هو أحب العمل اليه والموالاة فيه والمعاداة فيه ولولا محبته لهذه المأمورات لما قدر من المكروه له ما ما يكون سببا لحصولها.
التاسع: ان ترك المحظور لا يكون قربة ما لم يقارنه فعل المأمور فلو ترك العبد كل محظور لم يثبه الله عليه حتى يقارنه مأمور الايمان وكذلك المؤمن لا يكون تركه المحظور قربة حتى يقارنه مأمور النية بحيث يكون تركه لله فافتقر ترك المنهيات بكونه قربة يثاب عليها إلى فعل المأمور ولا يفتقر فعل المأمور في كونه قربة وطاعة إلى ترك المحظور ولو افتقر اليه لم يقبل الله طاعة من عصاه أبدا وهذا من أبطل الباطل.
العاشر: ان المنهى عنه مطلوب اعدامه والمأمور مطلوب ايجاده والمراد ايجاد هذا واعدام ذاك فإذا قدر عدم الأمرين أو وجودهما كان وجودهما خير من عدمهما فإنه اذا عدم المأمور لم ينفع عدم المحظور واذا وجد المأمور فقد يستعان به على دفع المحظور أو دفع أثره فوجود القوة والمرض خير من عدم الحياة والمرض.
الحادى عشر: ان باب المأمور الحسنة فيه بعشر أمثالها إلى

سبعمائة

ص -41- ضعف إلى أضعاف كثيرة وباب المحظور السيئة فيه بمثلها وهى بصدد الزوال بالتوبة والاستغفار والحسنة الماحية والمصيبة المكفرة واستغفار الملائكة للمؤمنين واستغفار بعضهم لبعض وغير ذلك وهذا يدل على أنه أحب إلى الله من عدم المنهى.

الثانى عشر: ان باب المنهيات يمحوه الله سبحانه ويبطل أثره بأمور عديدة من فعل العبد وغيره فإنه يبطله بالتوبة النصوح وبالاستغفار وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة وباستغفار الملائكة وبدعاء المؤمنين فهذه ستة في حال حياته وبتشديد الموت وكربه وسياقه عليه فهذا عند مفارقته الدنيا وبهول المطلع وروعة الملكين في القبر وضغطته وعصرته له وشدة الموقف وعنائه وصعوبته وبشفاعة الشافعين فيه وبرحمة أرحم الراحمين له فإن عجزت عنه هذه الأمور فلا بد له من دخول النار ويكون لبثه فيها على قدر بقاء خبثه ودرنه فإن الله حرم الجنة الا على كل طيب فما دام درنه ووسخه وخبثه فيه فهو في كير التطهير حتى يتصفى من ذلك الوسخ والخبث وأما باب المأمورات فلا يبطله إلا الشرك.
الثالث عشر: أن جزاء المأمورات الثواب وهو من باب الاحسان والفضل والرحمة وجزاء المنهيات العقوبة وهى من باب الغضب والعدل ورحمته سبحانه تغلب غضبه فما تعلق بالرحمة والفضل أحب اليه مما تعلق بالغضب والعدل وتعطيل ما تعلق بالرحمة أكره اليه من فعل ما تعلق بالغضب.
الرابع عشر: ان باب المنهيات تسقط الآلاف المؤلفة منه الواحدة من المأمورات وباب المأمورات لا يسقط الواحدة منه الآلاف المؤلفة من المنهيات.
الخامس عشر: ان متعلق المأمورات الفعل وهو صفة كمال بل كمال المخلوق من فعاله فإنه فعل فكمل ومتعلق النهى الترك والترك عدم ومن حيث هو كذلك لا يكون كمالا فإن العدم المحض ليس بكمال وانما يكون كمالا لما يتضمنه أو يستلزمه من الفعل الوجودى الذى

ص -42- هو سبب الكمال وأما أن يكون مجرد الترك الذى هو عدم محض كمالا أو سببا للكمال فلا مثال ذلك لو ترك السجود للضم لم يكن كماله في مجرد هذا الترك ما لم يكن يسجد لله والا فلو ترك السجود لله وللصنم لم يكن ذلك كمالا وكذلك لو ترك تكذيب الرسول ومعاداته لم يكن بذلك مؤمنا ما لم يفعل ضد ذلك من التصديق والحب وموالاته وطاعته فعلم أن الكمال كله في المأمور وان المنهى ما لم يتصل به فعل المأمور لم يفد شيئا ولم يكن كمالا فإن الرجل لو قال للرسول لا أكذبك ولا أصدقك ولا أواليك ولا أعاديك ولا أحاربك ولا أحارب من يحاربك لكان كافرا ولم يكن مؤمنا بترك معاداته وتكذيبه ومحاربته ما لم يأت بالفعل الوجودى الذى أمر به.
السادس عشر: ان العبد اذا أتى بالمأمور به على وجهه ترك المنهى عنه ولا بد فالمقصود انما هو فعل المأمور ومع فعله على وجهه يتعذر فعل المنهى فالمنهى عنه في الحقيقة هو تعريض المأمور للإضاعة فإن العبد اذا فعل ما أمر به من العدل والعفة وامتنع من صدور الظلم والفواحش منه فنفس العدل يتضمن ترك الظلم ونفس العفة تتضمن ترك الفواحش فدخل ترك المنهى عنه في المأمور به ضمنا وتبعا وليس كذلك في عكسه فان ترك المحظور لا يتضمن فعل المأمور فإنه قد يتركهما معا كما تقدم فعلم أن المقصود هو إقامة الأمر على وجهه ومع ذلك لا يمكن ارتكاب النهى البتة وأما ترك المنهى عنه فإنه يستلزم اقامة الأمر
السابع عشر: ان الرب تعالى اذا أمر عبده بأمر ونهاه عن أمر ففعلهما جميعا كان قد حصل محبوب الرب وبغيضه فقد تقدم له من محبوبه ما يدفع عنه شر بغيضه ومقاومته ولا سيما اذا كان فعل ذلك المحبوب أحب اليه من ترك ذلك البغيض فيهب له من جنايته ما فعل من هذا بطاعته ويتجاوز له عما فعل من الآخر
ونظير هذا في الشاهد أن يقتل الرجل عدوا للملك هو حريص على

ص -43- قتله وشرب مسكرا نهاه عن شربه فإنه يتجاوز له عن هذه الزلة بل عن أمثالها في جنب ما أتى به من محبوبه وأما اذا ترك محبوبه وبغيضه فإنه لا يقوم ترك بغيضه بمصلحة فعل محبوبه أبدا كما اذا أمر الملك عبده بقتل عدوه ونهاه عن شرب مسكر فعصاه في قتل عدوه مع قدرته عليه وترك شرب المسكر فإن الملك لا يهب له جرمه بترك أمره في جنب ترك ما نهاه عنه وقد فطر الله عباده على هذا فهكذا السادات مع عبيدهم والآباء مع أولادهم والملوك مع جندهم والزوجات مع أزواجهم ليس التارك منهم محبوب الامر ومكروهه بمنزلة الفاعل منهم محبوب أمره ومكروهه.
يوضحه الوجه الثامن عشر: ان فاعل محبوب الرب يستحيل أن يفعل جميع مكروهه بل يترك من مكروهه بقدر ما أتى به من محبوبه فيستحيل الاتيان بجميع مكروهه وهو يفعل ما أحبه وأبغضه فغايته أنه اجتمع الأمران فيحبه الرب تعالى من وجه ويبغضه من وجه أما اذا ترك المأمور به جملة فإنه لم يقم به ما يحبه الرب عليه فإن مجرد ترك المنهى لا يكون طاعة الا باقترانه بالمأمور كما تقدم فلا يحبه على مجرد الترك وهو سبحانه يكرهه ويبغضه على مخالفة الأمر فصار مبغوضا للرب تعالى من كل وجه إذ ليس فيه ما يحبه الرب عليه فتأمله.
يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أن الله سبحانه لم يعلق محبته إلا بأمر وجودى أمر به ايجابا أو استحبابا ولم يعلقها بالترك من حيث هو ترك ولا في موضع واحد فإنه يحب التوابين ويحب المحسنين ويحب الشاكرين ويحب الصابرين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ويحب المتقين ويحب الذاكرين ويحب المتصدقين فهو سبحانه انما علق محبته بأوامره اذ هى المقصود من الخلق والأمر كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فما خلق الخلق الا لقيام أوامره وما نهاهم الا عما يصدهم عن قيام أوامره ويعوقهم عنها.

ص -44- يوضحه الوجه العشرون: أن المنهيات لو لم تصد عن المأمورات وتمنع وقوعها على الوجه الذى أمر الله بها لم يكن للنهى عنها معنى وانما نهى عنها لمضادتها لأ2وامره وتعويقها لها وصدها عنها فالنهى عنها من باب التكميل والتتمة للمأمور فهو بمنزلة تنظيف طرق الماء ليجرى في مجاريه غير معوق فالأمر بمنزلة الماء الذى أرسل في نهر لحياة البلاد والعباد والنهى بمنزلة تنظيف طرقه ومجراه وتنقيتها مما يعوق الماء والأمر بمنزلة القوة والحياة والنهى بمنزلة الحمية الحافظة للقوة والداء والخادم لها
قالوا واذا تبين أن فعل المأمور أفضل فالصبر عليه أفضل أنواع الصبر وبه يسهل عليه الصبر عن المحظور والصبر على المقدور فإن الصبر الا على يتضمن الصبر الأدنى دون العكس وقد ظهر لك من هذا أن الأنواع الثلاثة متلازمة وكل نوع منها يعين على النوعين الآخرين وان كان من الناس من قوة صبره على المقدور فإذا جاء الأمر والنهى فقوة صبره هناك ضعيفة ومنهم من هو بالعكس من ذلك ومنهم من قوة صبره في جانب الامر أقوى ومنهم من هو بالعكس والله أعلم

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم

الباب العاشر: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم
الصبر ينقسم إلى قسمين: قسم مذموم وقسم ممدوح:
فالمذموم: الصبر عن الله وارادته ومحبته وسير القلب اليه فإن هذا الصبر يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية وتفويت ما خلق له وهذا كما أنه أقبح الصبر فهو أعظمه وأبلغه فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذى لا حياة له بدونه البتة كما أنه لا زهد أبلغ من زهد الزاهد فيما أعد الله لأوليائه من كرامته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالزهد في هذا أعظم أنواع الزهد كما قال رجل لبعض الزاهدين وقد تعجب لزهده "ما رأيت أزهد منك!" فقال: "أنت أزهد

ص -45- منى أنا زهدت في الدنيا وهى لا بقاء لها ولا وفاء وأنت زهدت في الآخرة فمن أزهد منا" قال يحيى بن معاذ الرازى "صبر المحبين أعجب من صبر الزاهدين واعجبا كيف يصبرون!" وفي هذا قيل

الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد
ووقف رجل على الشبلى فقال: أى صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله قال لا فقال الصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله قال لا قال فإيش هو قال الصبر عن الله فصرخ الشبلى صرخة كادت روحه تزهق.
وقيل: الصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد أجمع الناس على أن الصبر عن المحبوب غير محمود فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته ولم تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم كما قيل:
والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود
وقال آخر في الصبر عن محبوبه
إذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحب يلعب بالرجال
وكيف الصبر عمن حل منى بمنزلة اليمين مع الشمال
وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه فقال: لو كنت صادقا لما صبرت عنى.
ولما شكوت الحب قالت كذبتنى ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر

فصل: وأما الصبر المحمود فنوعان: صبر لله وصبر بالله قال الله تعالى {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّه} وقال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقد تنازع الناس أي الصبرين أكمل فقالت طائفة الصبر له أكمل فإن ما كان لله أكمل مما كان بالله فإن ما كان له فهو غاية وما كان به فهو وسيلة والغايات أشرف من الوسائل ولذلك وجب الوفاء بالنذر إذا كان تبرر أو تقربا إلى الله لأنه نذر

ص -46- له ولم يجب الوفاء به إذا خرج مخرج اليمين لأنه حلف به فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجى من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته.

وقالت طائفة: الصبر بالله أكمل بل لا يمكن الصبر له إلا بالصبر به كما قال تعالى { وَاصْبِرْ } فأمره بالصبر والمأمور به هو الذى يفعل لأجله ثم قال { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } فهذه جملة خبرية غير الجملة الطلبية التى تقدمتها أخبر فيها انه لا يمكنه الصبر الا به وذلك يتضمن أمرين الاستعانة به والمعية الخاصة التى تدل عليها باء المصاحبة كقوله فبي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى وليس المراد بهذه الباء الاستعانة فإن هذا أمر مشترك بين المطيع والعاصى فإن مالا يكون بالله لا يكون بل هى باء المصاحبة والمعية التى صرح بمضمونها في قوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهى المعية الحاصلة لعبده الذى تقرب اليه بالنوافل حتى صار محبوبا له فبه يسمع وبه يبصر وكذلك به يصبر فلا يتحرك ولا يسكن ولا يدرك إلا والله معه ومن كان كذلك أمكنه الصبر له وتحمل الأثقال لأجله كما في الأثر الإلهى يعنى "وما يتحمل المتحملون من

أجلى" فدل قوله { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } على انه من لم يكن الله معه لم يمكنه الصبر وكيف يصبر على الحكم الأمرى امتثالا وتنفيذا وتبليغا وعلى الحكم القدرى احتمالا له واضطلاعا به من لم يكن الله معه فلا يطمع في درجة الصبر المحمود عواقبه من لم يكن صبره بالله كما لا يطمع في درجة التقرب المحبوب من لم يكن سمعه وبصره وبطشه ومشيه بالله
وهذا هو المراد من قوله: "كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها" ليس المراد انى كنت

ص -47- نفس هذه الاعضاء والقوى كما يظنه أعداء الله أهل الوحدة وان ذات العبد هى ذات الرب تعالى الله عن قول اخوان النصارى علوا كبيرا ولو كان كما يظنون لم يكن فرق بين هذا العبد وغيره ولا بين حالتى تقربه إلى ربه بالنوافل وتمقته اليه بالمعاصى بل لم يكن هناك متقرب ومتقرب اليه ولا عبد ولا معبود ولا محب ولا محبوب فالحديث كله مكذب لدعواهم الباطلة من نحو ثلاثين وجها تعرف بالتأمل الظاهر وقد فسر المراد من قوله: "كنت سمعه وبصره ويده ورجله" بقوله: "فبي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى" فعبر عن هذه المصاحبة التى حصلت بالتقرب اليه بمحابه بألطف عبارة وأحسنها تدل على تأكد المصاحبة ولزومها حتى صار له بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله
ونظير هذا قوله:"الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه".
ومثل هذا سائغ في الاستعمال أن ينزل إلى منزلة ما يصاحبه ويقارنه حتى يقول المحب للمحبوب أنت روحى وسمعى وبصرى وفي ذلك معنيان أحدهما أنه صار منه بمنزلة روحه وقلبه وسمعه وبصره والثانى أن محبته وذكره لما استولي على قلبه وروحه صار معه وجليسه كما في الحديث "يقول الله تعالى: أنا جليس من ذكرنى" وفي الحديث الآخر "أنا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت بى شفتاه" وفي الحديث "فإذا أحببت عبدى كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا" ولا يعبر عن هذا المعنى بأتم من هذه العبارة ولا أحسن ولا ألطف منها وإيضاح هذه العبارة مما يزيدها جفاء وخفاء.
والمقصود انما هو ذكر الصبر بالله وأن العبد بحسب نصيبه من معية الله له يكون صبره واذا كان الله معه أمكن أن يأتى من الصبر بما لا يأتى به غيره قال أبو على فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

ص -48- وها هنا سر بديع وهو أن من تعلق بصفة من صفات الرب تعالى أدخلته تلك الصفة عليه وأوصلته اليه والرب تعالى هو الصبور بل لا أحد أصبر على أذى سمعه منه وقد قيل ان الله سبحانه أوحى إلى داود "تخلق بأخلاق فإن من أخلاقى انى أنا الصبور" والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته ويحب مقتضى صفاته وظهور آثارها في العبد فإنه جميل يحب الجمال عفو يحب أهل العفو كريم يحب أهل الكرم عليم يحب أهل العلم وتر يحب أهل الوتر قوى والمؤمن القوى أحب إليه من المؤمن الضعيف صبور يحب الصابرين شكور يحب الشاكرين واذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف فهذه المعية الخاصة عبر عنها بقوله "كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا".
فصل: وزاد بعضهم قسما ثالثا من أقسام الصبر وهو الصبر مع الله وجعلوه أعلى أنواع الصبر وقالوا هو الوفاء ولو سئل هذا عن حقيقة الصبر مع الله لما أمكنه أن يفسره بغير الأنواع الثلاثة التى ذكرت وهى الصبر على أقضيته والصبر على أوامره والصبر عن نواهيه فإن زعم أن الصبر مع الله هو الثبات معه على أحكامه يدور معها حيث دارت فيكون دائما مع الله لا مع نفسه فهو مع الله بالمحبة والموافقة فهذا المعنى حق ولكن مداره على الصبر على الأنواع المتقدمة وإن زعم أن الصبر مع الله هو الجامع لأنواع الصبر فهذا حق ولكن جعله قسما رابعا من أقسام الصبر غير مستقيم.
واعلم أن حقيقة الصبر مع الله هو ثبات القلب بالاستقامة معه وهو أن لا يروغ عنه روغان الثعالب ها هنا وها هنا فحقيقة هذا هو الاستقامة اليه وعكوف القلب عليه وزاد بعضهم قسما آخر من اقسامه وسماه الصبر فيه وهذا أيضا غير خارج عن أقسام الصبر المذكورة ولا يعقل من الصبر فيه معنى غير الصبر له وهذا كما يقال فعلت هذا في الله وله كما قال خبيب:

ص -49- وقد قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقال {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} وفي حديث جابر: "ان الله تعالى لما أحيا أباه وقال له تمن قال يا رب أن ترجعنى إلى الدنيا حتى أقتل فيك مرة ثانية" وقال "ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد" وهذا يفهم منه معنيان أحدهما أن ذلك في مرضاته وطاعته وسبيله وهذا فيما يفعله الإنسان باختياره كما في الحديث "تعلمت فيك العلم" والثاني انه بسببه وبجهته حصل ذلك وهذا فيما يصيبه بغير اختياره وغالب ما يأتى قولهم "ذلك في الله" في هذا المعنى فتأمل قوله "ولقد أوذيت في الله" وقول خبيب وذلك "في ذات الإله" وقول عبد الله بن حزام "حتى أقتل فيك" وكذلك قوله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فإنه يترتب عليه الأذى فيه سبحانه.
وليست في ها هنا للظرفية ولا لمجرد السببية وان كانت السببية هي أصلها فانظر إلى قوله "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وقوله "دخلت امرأة النار في هرة" كيف تجد فيه معنى زائدا على السببية وليست في للوعاء في جميع معانيها فقولك "فعلت هذا في مرضاتك" فيه معنى زيد على قولك "فعلته لمرضاتك" وأنت اذا قلت "أوذيت في الله" لا يقوم مقام هذا اللفظ كقولك "أوذيت لله" ولا "بسبب الله" وإذا فهم المعنى طوى حكم العبارة والمقصود ان الصبر في الله ان أريد به هذا المعنى فهو حق وان أريد به معنى خارج عن الصبر على أقضيته وعلى أوامره وعن نواهيه وله وبه لم يحصل فالصابر في الله كالمجاهد في الله والجهاد فيه لا يخرج عن معنى الجهاد به وله والله الموفق.
وأما قول بعضهم"الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر في

ص -50- الله بلاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء" فكلام لا يجب التسليم لقائله لأنه ذكر ما سنح له وتصوره وانما يجب التسليم للنقل المصدق عن القائل المعصوم ونحن نشرح هذه الكلمات.
أما قوله"الصبر لله غناء" فإن الصبر لله بترك حظوظ النفس ومرادها لمراد الله وهذا أشق شيء على النفس وأصعبه فإن قطع المفازة التي بين النفس وبين الله بحيث يسير منها إلى الله شديد جدا على النفس بخلاف السفر إلى الآخرة فإنه سهل كما قال الجنيد"السير من الدنيا إلى الآخرة سهل يعنى على المؤمن وهجران الخلق في جنب الحق شديد والسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد"
وأما قوله:"والصبر بالله بقاء" فلأن العبد اذا كان بالله هان عليه كل شيء ويتحمل الأثقال ولم يجد لها ثقلا فإنه اذا كان بالله لا بالخلق ولا بنفسه كان لقلبه وروحه وجود آخر وشأن آخر غير شأنه اذا كان بنفسه وبالخلق وبهذا الحال لا يجد عناء الصبر ولا مرارته وتنقلب مشاق التكليف له نعيما وقرة عين كما قال بعض الزهاد عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة ومن كانت قرة عينه في الصلاة لم يجد لها مشقة وكلفة.
وأما قوله:"والصبر في الله بلاء" فالبلاء فوق العناء والصبر فيه فوق الصبر له وأخص منه كما تقدم فإن الصبر فيه بمنزلة الجهاد فيه وهو أشق من الجهاد له فكل مجاهد في الله وصابر في الله مجاهد له وصابر له من غير عكس فإن الرجل قد يجاهد ويصبر لله مرة ليقع عليه اسم من فعل ذلك لله ولا يقع عليه اسم من فعل ذلك في الله وإنما يقع على من انغمس في الجهاد والصبر ودخل الجنة.
وأما قوله:"والصبر مع الله وفاء" فلأن الصبر معه هو الثبات معه على أحكامه ولا يزيغ القلب عن الإنابة ولا الجوارح عن الطاعة فتعطى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.